من البديهي أن أي شخص سوي يحب أن يتمتع بالنظافة ويعيش في بيئة نظيفة، لكن البعض يستنكفون عن الإسهام في صنع هذه النظافة ويفضلون أن يصنعها لهم الآخرون الذين يُسمون عُمال النظافة، حيث نرى هؤلاء البعض ودون أي خجل لا يتورعون عن إلقاء النفايات في الشوارع على مرأى من الجميع وبكل بجاحة دون أي احترام للشوارع وسالكيها، ولا يكلفون أنفسهم عناء وضعها في الأماكن المخصصة لها.. وأكثر ما يثير الاستغراب هو (الجرأة) التي يمتلكها أمثال هؤلاء أثناء إقدامهم على تلك التصرفات المشينة، والمضي قدماً بكل ثقة دون إبداء أي احترام سواء للمكان العام أو للمارة، بل إن أحداً إذا حاول نصحهم لا يتورعون عن شتمه بالقول: “ وهل الشارع حقك أو حق أبوك؟”.. إضراب عُمال النظافة في مدينة تعز مؤخراً بسبب عدم استلامهم لمرتباتهم فضح هذه الحقيقة وكشف كم أننا نكره النظافة وإن تظاهرنا بالعكس، فقد تحولت المدينة إلى مقلب كبير للقمامة، شوارعها وأزقتها تعج بالنفايات على اختلاف أنواعها، وإن كان عُمال النظافة قد عادوا خلال اليومين الماضيين لممارسة عملهم بعد وعود بتسليمهم مستحقاتهم لشهرين معاً حسب ما سمعناه من البعض إلا أن مشكلة تأخر تسليم مرتبات هؤلاء العُمال والمماطلة في تسليمها دائماً ما تتكرر دون أن تجد طريقها للحل، الأمر الذي لا يمنع من عودتها مجدداً ومعها ستعود نفس المخاطر الصحية والبيئية لتهدد المدينة وساكنيها. إلى جانب هذه المشكلة التي لا نقلل من أهميتها هناك مشكلة أخرى أعتقد أنها الأهم وتكمن في تلك الرواتب الهزيلة التي يتقاضاها هؤلاء العُمال والتعامل معهم من قبل الجميع إلا من رحم ربي بازدراء واحتقار وكأنهم أقل قيمة ومكانة وقدراً من بني البشر، حتى في الرواتب فهم أقل من يتسلمون مرتبات على مستوى العاملين في الدولة، مع أن هناك الكثير من الموظفين والعُمال يتسلمون مرتبات عالية ولا تظهر آثار عملهم، بينما عُمال النظافة يتسلمون أقل المرتبات وآثار عملهم بادية للعيان ونلمسها في كل مكان من الشوارع والحارات والأزقة وفي كل مكان من المدينة. عُمال النظافة الذين ينظفون أوساخنا ومخلفاتنا إنما يقومون بتجميل صورتنا وإبرازنا بمظهر نظيف وحضاري، لكن للأسف لا يجدون منا الشكر والعرفان مقابل هذا العمل بل إننا نكافئ ونجازي هؤلاء الذين يحسنون إلينا صنعاً بالازدراء والاحتقار، والمصيبة الكبرى أن أغلبهم إن لم يكونوا كلهم متعاقدون بالأجر اليومي ومكتوب عليهم أن يظلوا كذلك حتى لو أفنوا أعمارهم في هذا العمل، وكأنه ليس لهم الحق في الحصول على وظيفة رسمية إسوة بغيرهم من الموظفين في الجهاز الإداري للدولة. إذا كُنا نؤمن بالمقولة الشهيرة “ النظافة من الإيمان”، فإنه من الأولى علينا أن نؤمن بحديث الرسول الكريم (عليه أفضل الصلاة والتسليم): “ أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”، هذا إذا اعتبرنا أن الملاليم الزهيدة التي يتسلمها عُمال النظافة هي أجر ما يقومون به من عمل شاق ومضن وفيه الكثير من المخاطر الصحية والنفسية والبدنية، وإن كنا على يقين بأنه ليس الأجر العادل لهؤلاء العمال الذين نعاملهم وكأنهم فئة أو طبقة دونية، مع أن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تؤكد بأن “ الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”. من الجُرم والعيب والعار أن ننتقص من هؤلاء الآدميين ونبخس حقوقهم ونتعامل معهم وكأنهم أقل آدمية وإنسانية من الآخرين، فهم بشر يمتلكون مشاعر وأحاسيس ويعيشون نفس الظروف والأحوال ويعانون نفس المعاناة ولهم نفس الاحتياجات والمطالب للعيش بكرامة كغيرهم من بني البشر.. فلماذا لا نعاملهم كبشر، سواء في منحهم درجات وظيفية دائمة ومرتبات تلائم طبيعة عملهم والجهد المبذول فيه والمخاطر التي تواجههم، أو على الأقل تسليم رواتبهم في مواعيدها إسوة بغيرهم من العاملين في الجهاز الإداري للدولة. نحن هنا لا نطالب بأن تكون رواتب هؤلاء هي الأعلى على الإطلاق، وإن كانوا يستحقون ذلك، نظراً للعمل الهام والحيوي الذي يقومون به والجهد الذي يبذلونه لإنجازه مع ضرورة أن يتمتعوا بتأمين صحي متكامل، نظراً للمخاطر الكثيرة بدنياً وصحياً ونفسياً التي يتعرض لها كل من يتعامل مع النفايات .. لكننا نطالب فقط بأن تتم معاملتهم بآدمية وإنسانية كغيرهم من البشر. [email protected]