بعد عشرة أشهر من بدء الأزمة السياسية التي تسببت تداعياتها المؤسفة في إحداث شرخ عميق في العلاقات الاجتماعية بين مختلف فئات الشعب وحتى على مستوى الأسرة الواحدة، وأثرت بشكل كبير على الحياة العامة سواء الأمنية أو الاقتصادية أو التنموية أو التعليمية والثقافية. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد ولكنها أخذت بعداً خطيراً عندما تحول مسار الاعتصامات والمظاهرات نحو العنف والمواجهات الدموية وقيام المليشيات المسلحة الخارجة عن النظام والقانون بمهاجمة المعسكرات والمؤسسات والمصالح والمنشآت العامة والاعتداء على المواطنين وأفراد القوات المسلحة والأمن والتمترس في الشوارع العامة وجعلها ساحات حرب مفتوحة كما حدث في العاصمة صنعاء ومدينة تعز، فسُفكت دماء زكية وأُزهقت أرواح بريئة وأصبحت البلاد في منعطف خطير، فارتفعت الأصوات المنادية بتحكيم العقل والمنطق من قبل أطراف الأزمة وإعمال الحكمة لإنقاذ الوطن والشعب من الانحدار نحو فتنة لا تحمد عقباها وحرب طاحنة تأكل الأخضر واليابس. وفي الوقت الذي كان المقامرون وتجار الحروب ومن يقف خلفهم يراهنون على خيار الحسم العسكري والذين أطلقوا عليه مصطلح (الحسم الثوري) للاستيلاء على السلطة عبر الانقلاب على الشرعية الدستورية والنهج الديمقراطي وإدخال الوطن والشعب في نفق مظلم كان العقلاء والخيرون من أبناء الوطن ومعهم الأشقاء والأصدقاء يراهنون على خيار الحل السلمي لإنهاء الأزمة ونقل السلطة سلمياً. وفي لحظات تاريخية مهيبة تجلت الحكمة اليمانية في أبهى صورها وأجمل معانيها عندما قام فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح بالتوقيع على مبادرة مجلس التعاون الخليجي وآليتها التنفيذية المزمنة مساء الأربعاء الماضي في العاصمة السعودية (الرياض) بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود وولي عهده سمو الأمير نائف والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي وسفراء دول المجلس لدى بلادنا وممثل الأمين العام للأمم المتحدة السيد جمال بن عمر وسفراء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي، وكذا توقيع ممثلي المؤتمر الشعبي العام وحلفائه وأحزاب اللقاء المشترك وشركائه على الآلية التنفيذية، وكان ممثلو المؤتمر وحلفائه وأحزاب المشترك وشركائه قد وقعوا على المبادرة الخليجية في وقت سابق وتأجل التوقيع من قبل فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح بسبب عدم وجود الآلية المزمنة لها والضمانات اللازمة لتنفيذها كمنظومة متكاملة وكذا بسبب تعرضه لمحاولة الاغتيال الآثمة في الهجوم الإرهابي الغادر على مسجد دار الرئاسة في أول جمعة من شهر رجب الحرام الثالث من يونيو الماضي، وكان الكثيرون يراهنون على أن الأخ الرئيس لن يوقع على المبادرة، بل إن هناك قيادات مغامرة وتجار حروب كانوا يتمنون ألا يوقع عليها لأن لديهم أجندة كانوا يعملون على تنفيذها، ولكن الأخ الرئيس خيّب آمالهم وأفشل مخططاتهم وأثبت لكل من في قلبه مرض وللعالم أجمع أنه يضع مصلحة الوطن والشعب فوق مصالحه الشخصية والحزبية. كما أنه خيّب توقعات أولئك المحللين الذين توقعوا في تحليلاتهم أنه متشبث بالسلطة ولن يتركها أبداً مهما كلفه الأمر، ولكنه أثبت عكس توقعاتهم وأنه في سبيل الوطن والحفاظ على وحدته ومقدراته وأمنه واستقراره تهون كل التضحيات وهو بذلك يقدم درساً عظيماً في الوطنية وحب الوطن يجب أن يتعلمه جيداً الطامعون في كرسي السلطة، وليعوا جيداً أن زمن الانقلاب في اليمن قد ولّى وإلى غير رجعة وأن الوصول إلى السلطة أصبح لا يتم إلا بإرادة أبناء الشعب من خلال الإدلاء بأصواتهم في انتخابات حرة ونزيهة مباشرة وعبر صناديق الاقتراع. لقد مثّل التوافق السياسي بين أطراف الأزمة محطة تاريخية هامة في حياة الشعب اليمني، فهو بمثابة البوابة التي سيعبر من خلالها شعبنا اليمني إلى مرحلة تاريخية جديدة تتطلع بآمال كبيرة أن تكون مرحلة بناء وتقدم وازدهار وتحقيق نقلة نوعية في مسار العمل السياسي والنهج الديمقراطي وبناء اليمن الحضاري الجديد والدولة المدنية الحديثة، دولة المؤسسات والنظام والقانون، ولذلك فلا بد أن تصدق النيات لتنفيذ ما تضمنته المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية وأن يسمو الجميع إلى مستوى المسؤولية الوطنية والتاريخية ويترفعوا عن الصغائر ويتركوا الماضي خلف ظهورهم ويبتعدوا عن المناكفات والمكايدات السياسية ويبدأوا صفحة جديدة عنوانها (كلنا لليمن).