يظل الفساد دوماً وأبداً حجر عثرة في تقدم ونهوض أي مجتمع يستشرى فيه هذا الداء الخطير سواء بين أفراده أو داخل أجهزته ومؤسساته, وسبق أن أشرت في مقالات سابقة إلى خطورة الفساد وكيف يمكن استئصال هذا الداء الخطير من جسم المجتمع ليصبح مجتمعاً نظيفاً وصحياً قادراً على التقدم والنهوض نحو الأفضل. لكنني في مقالتي اليوم أتحدث عن حالة خاصة من حالات الفساد في أجهزة ومؤسسات الدولة وهي حالة الفساد في مؤسسات التعليم العالي أو الجامعات الحكومية بشكل خاص. فإذا كان الفساد المالي والإداري يشكل خطورة على أداء ومهام وفاعلية كل مرفق ومؤسسة في الدولة فإنه أشد فتكاً وخطورة عندما يتغلغل وينتشر في مؤسسات التعليم وخصوصاً الجامعات باعتبارها المؤسسات المعنية أساساً برفد الجهاز الإداري والمؤسسات المختلفة في المجتمع بالكوادر المتخصصة والمؤهلة علمياً ومهارياً في مختلف المجالات التي يحتاجها المجتمع, فالفساد المالي والإداري انتهك حرمة العديد من جامعاتنا الحكومية بشكل لا يمكن السكوت عنه وأثر على أداء هذه الجامعات وجعلها عاجزة تماماً عن ممارسة دورها المطلوب ومواكبة التطور في مختلف الجوانب العلمية والأكاديمية.. لقد أصبحت ميزانيات بعض الجامعات اليمنية للأسف الشديد عرضة للنهب المنظم والمبرمج من قيادات إدارية وأكاديمية وبدلاً من توجيه هذه الميزانية الضئيلة والمحدودة أصلاً في جوانب تخدم عملية التطوير وتحسين الأداء في الجانب التعليمي والأكاديمي في هذه الجامعات, نجدها توجه لبنود بعضها لا علاقة له بخدمة الجامعة من قريب أو بعيد وبطرق محتالة وحقيرة. لقد أذهلني حقاً ما سمعته من بعض الزملاء والمختصين في الجامعة الحكومية التي أعمل فيها عن بعض ممارسات وأشكال الفساد المالي والإداري في الجامعة، والتي كنت أجهلها رغم معرفتي ببعض ممارسات وأشكال الفساد في الجامعة بحكم طبيعة عملي فيها, إلا أن ما كنت أجهله أعظم وأخطر مما أعرفه في هذا الجانب, فعلى سبيل المثال لا الحصر تم إنفاق بدلات سفر لقيادات إدارية وأكاديمية في هذه الجامعة للخارج في مهام لا تستدعي معظمها السفر مبالغ تكفي لتجهيز معامل حديثة للطلاب أو توفير مكاتب لأقسام علمية في إحدى الكليات مرّ على إنشائها أكثر من ثلاث سنوات ومازالت تفتقر إلى أبسط متطلبات ممارسة الأداء الإداري والأكاديمي ولا يجد أعضاء هيئة التدريس في هذه الأقسام للأسف الشديد حتى كراسي يجلسون عليها!!!.. ولا ينبغي هنا أن نتجاهل الفساد في الجانب الأكاديمي بجامعاتنا خصوصاً ما يتصل بمهام وأداء الأستاذ الجامعي، فهناك للأسف الشديد أعضاء هيئة تدريس في الجامعات اليمنية خصوصاً من الذين تم تعيينهم بمعايير بعيدة تماماً عن قانون الجامعات اليمنية والمعايير القانونية والأكاديمية التي تضمنها القانون, ليست لهم علاقة لا بألقابهم ولا بقيم التعليم الجامعي ولا بأخلاق المهنة، وهذه حقيقة مؤلمة ومخزية وقاسية وثقيلة يجب أن لا نتجاهلها ويجب أن ندرك آثارها السلبية على سمعة الجامعة وأساتذة الجامعة في المجتمع.. وفي هذا الجانب أضم صوتي إلى صوت الزميلة العزيزة والدكتورة القديرة سعاد السبع التي أشارت في إحدى مقالاتها الصحفية إلى أن «هناك أعضاء هيئة التدريس في الجامعات اليمنية وجودهم في سلك التدريس خطأ سياسي وتاريخي وعلمي، فمنهم الذين يظنون أن (الدال) منحتهم حق الشخيط والنخيط على الطلبة، فلا يجيدون سوى (التهبيش والتهديد في القاعات الدراسية) وإثبات قدراتهم بإرسال سيل من التكاليف والواجبات الدراسية التي يفرضونها على الطلبة، ولا يكلفون أنفسهم حتى متابعة جزء منها، لأنهم حتى وإن تابعوها لا يستطيعون مناقشة الطلبة فيها ولا يفقهون فيها شيئاً، لكنها وسيلتهم الناجحة للتخلص من الإعداد الجيد لمحاضراتهم، ولإخراس الطلبة أمامهم، ولا يملك الطلبة أمامهم إلا تنفيذ ما يطلبون بلا دافعية، وبلا حرص على التعلم، فقط لاتقاء شرهم». ومنهم أعضاء هيئة تدريس محسوبون على الجامعة في كشوف المرتبات فقط؛ فلا يحضرون إلا أسبوعاً أو أسبوعين طوال الفصل الدراسي ل«كلفتة» المنهج للطلاب المغلوبين على أمرهم في محاضرة أو محاضرتين بنظام المقاولة من الصباح إلى المساء دون أدنى مسؤولية وأمانة.. فمن الذي يجرؤ على إيقافهم عند حدهم؟! فلهم مكانتهم السياسية، أو الحزبية، ومشاريعهم الخاصة التي تكسبهم المناعة ضد كل القوانين.. ويمكنني القول بأنه إذا ما أردنا بصدق استئصال داء الفساد من جامعاتنا فإن علينا أولاً كقيادات وأعضاء هيئة تدريس وعاملين في الجامعات أن نعزز في أنفسنا ثقافة الإخلاص في العمل والأمانة والمسؤولية وحب النظام والشفافية ونبذ الفساد والإدراك بأضراره ومخاطره على جامعاتنا ومجتمعنا ومستقبل وطننا، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وعلى نقابتنا العزيزة أن تقف بمسؤولية ودون مجاملة أمام بعض النماذج من أعضاء هيئة التدريس التي تسيء بممارساتها السلبية وغير الأكاديمية للتعليم الجامعي وسمعة الأستاذ الجامعي ومكانته في المجتمع، فلا يشرف نقابتنا أن ينتسب إليها مثل هؤلاء، وعليها أن تمتلك الجرأة في كشف وتعرية كافة مظاهر وأشكال الفساد والمفسدين في جامعاتنا واتخاذ الإجراءات المناسبة إزاءها وإبلاغ الأجهزة المختصة بمكافحة الفساد في الدولة عن أية حالات فساد مالي وإداري في أي من مرافق الجامعات, وعلى كل عضو هيئة تدريس وموظف أو مسئول أو قيادي في الجامعة أن يتقي الله أولاً ويدرك أمانة المسؤولية الملقاة على عاتقه في خدمة وطنه وأبناء وطنه، ويعزز في نفسه الرقابة الذاتية النابعة من كونه مسلماً في المقام الأول فلا يرضى بأكل المال الحرام أو إطعام أهله من هذا المال, ويلتزم بالإتقان والإخلاص والأمانة والصدق في عمله كون هذه العناصر من المبادئ الأساسية لأخلاقيات العمل في الإسلام, وعليه أن يحترم النظم والقوانين ويبتعد عن المحاباة وتغليب مصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة لأبناء وطنه, ويدرك يقيناً أن الله لن يبارك له في عمره أو صحته أو ماله أو أولاده في الدنيا ولن يفلت من عقاب الله في الآخرة إذا ما أفلت من العقاب الذي يستحقه في حياته الدنيا. ختاماً كم أتمنى وأحلم أن يأتي اليوم الذي نمارس فيه مهامنا الأكاديمية في بيئة جامعية نظيفة وخالية من الفساد والمفسدين, بيئة مشجعة على العطاء والإبداع الأكاديمي يجد فيها عضو هيئة التدريس كل ما يحفزه ويمكنه من ممارسة مهامه التدريسية والبحثية بفاعلية, ويجد فيها الطالب الجامعي كل ما يحتاجه من معارف ومهارات حديثة بأساليب متقدمة, وبجودة عالية، ونجد فيه رؤساء ونواباً للجامعات يفتحون صدورهم وأبواب مكاتبهم (وليس مقايلهم) لمن يريد أن يحسن ويطور الأداء الإداري والأكاديمي في الجامعة!!!, ونجد فيه على الأقل أمناء للجامعات أكاديميين مؤهلين يعرفون كيف يتعاملون مع أساتذة الجامعات بلطف واحترام ومسؤولية لا كشحاتين ومتسولين لحقوقهم المشروعة!!! والأمل معقود اليوم بجهود وحماس معالي الأستاذ الدكتور يحيى الشعيبي وزير التعليم العالي في حكومة الوفاق الحالية لتصحيح أوضاع الجامعات الحكومية, والنظر بعين الحريص على مستقبل الوطن وأبناء الوطن لما آلت إليه هذه الجامعات نتيجة انتهاك الفساد والفاسدين حرمتها خلال الفترة الماضية.. فهل يتحقق ذلك؟! (*)أستاذ التسويق المساعد جامعة تعز [email protected]