هاقد بدأت الحياة تدب من جديد في عروق المحروسة ال«يمن» بعد أن كادت الأشهر الماضية تدخلها في غيبوبة مؤبدة لا يعلم مداها إلاَّ الله، لكن القدر المحفوف برحمات السماء أعظم وأقوى من أية تكهنات سياسية أو تحليلات إخبارية أو توقعات اقتصادية أو بيئية، لن يكون إلا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، غير أن الأمر اليوم لم يعد في يد الخليجيين الذين تقدموا مشكورين بالمبادرة الاستثنائية في المنعطف الصعب، بل هو بأيدينا نحن، فالإصلاح يجب أن يشمل الداخل أولاً، ولا أعني بالداخل شوارع المدن ومبانيها ومرافقها المحطمة وأرصفتها التي أصبحت «مقالب نفايات»، بل أقصد بالداخل نفس الإنسان ونيته وقدرته على التغيير. وسأقف معكم اليوم على قضية لا ينقصها إلا حسن النوايا والإخلاص في العمل، إنها قضية طلبة كلية الطب جامعة تعز الذين مرّ على تخرجهم قرابة عشرة أشهر منذ انتهائهم من تقديم آخر اختبار تطبيقي في 26 /2 /2011م، لم يتم الإعلان عن تحصيلهم النهائي للاختبارات كما لم يتم الحصول على أية وثيقة «سجل أكاديمي شهادة كشف نجاح ....» تدل على تخرجهم والسبب كما يقول بعض الخريجين مشاكل شخصية بين الأطباء وعمادة الجامعة من جهة وبين المستشفيات كمراكز تطبيقية وإدارة الجامعة أيضاً من جهة أخرى. مع العلم بأن هذا الاختبار النهائي كان قد تم تأجيله قبل ذلك وبطريقة لا توحي بوجود التزام تعليمي وظيفي جاد إن لم يتوفر في أية كلية فمن الواجب أن يتوفر في كلية الطب على أقل تقدير، كون الالتزام درساً عظيماً لا تستطيع أية مشرحة أو مشفى أن تلقنه لطلاب هذه الكلية، على اعتبار أن عدم التقيد بهذا المبدأ لا يذهب ثمنه إلا أرواح الناس. مشاكل المستحقات المالية كانت هي السبب الأكثر بروزاً بين أسباب جمة تم على إثرها تجاهل مصير هؤلاء الخريجين والتعامل معهم كقطعان من الماشية لا تعي ما تفعل.. ستون طالباً وطالبة هو العدد الثابت للقبول بدعم حكومي «تسجيل مجاني» وما تبقى من المتقدمين لدراسة الطب عليه دفع «1500» دولار سنوياً، أي أنه يتلقى تعليمه في جامعة حكومية بنفقة خاصة! فأين هي تلك المبالغ المدفوعة أمام الاحتجاج المالي الذي يزعمه الأطباء والمتمثل في بنود مكافآت ومستحقات فقط أما الرواتب فهي مكفولة شهرياً وفق شهادة طلاب الكلية، فهل تستحق تلك المكافآت أن تكون حجر عثرة في حصول الطلاب على شهاداتهم وانطلاقهم لتقديم مهامهم الإنسانية والوطنية داخل مجتمعم؟! هل يستحق الأمر أن تتأجل الاختبارات النهائية من شهر سبتمبر إلى شهر ديسمبر 2011م لأسباب مجهولة وبطريقة استخفافية بإنسانية الطلاب؟! أية مبادرة تلك التي ستعلمنا كيف نحب الوطن، وكيف نتنازل عن كل اعتباراتنا الشخصية مهما كانت أهميتها أمام مصلحة محيطنا الاجتماعي الذي يحمل فيه المتعلمون وزر الاستخفاف بحمل رسالة التنوير في وطن تتداعى أركان العلم فيه يوماً بعد يوم؟ متى ستكون دولة العقل هي صاحبة المبادرة؟! الواقع اليوم بحاجة إلى نخوة حقيقية وضمير إنساني حي وقبيلة عتيقة من ذلك النوع الذي كان الإنسان فيه يبيع حياته لأجل الوفاء بعهده وإثبات سلامة نيته، أين ذهبت تلك المروءة فينا حين كاد وطننا يتمزق وخلف الكواليس من يبحث عن شهرة أو منصب أو ترقية أو رتبة..؟! على عمادة كلية الطب ان تدرك أن عهداً جديداً من الوصاية الأخلاقية الذاتية بدأ للتو، وأن هذا التخصص تحديداً يجب أن يخرج عن نطاق الاستخفاف واللامبالاة والتسويات السياسية، إذ إن الطب مهنة مشاعر قبل أن تكون مهنة مشافي، أطلقوا هؤلاء الأطباء لوجه الله الكريم ولا تخلطوا بين الأوراق، فالعقول الآدمية خلقت حرة ولن تستطيع أغلال الدنيا أن تقيدها.