وصف مالك بن نبي، في كتابه “وجهة العالم الإسلامي” حسن البنا وكيف كان يتفاعل مع القرآن والجمهور، بأنه لم يكن يتلوه عليهم تلاوة، كما في معاهد التحفيظ، كما لم يكن يفسر القرآن تفسيراً، بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها. فالقرآن لم يعد على شفتي ذلك الرجل وثيقة محايدة أو قانوناً محرَّراً، بل كان يتفجر كلاماً حياً، ونوراً آخذاً يتنزل من السماء، فيضيء ويهدي، ومنبعاً للطاقة يكهرب به إرادة الجموع، فيسير بها نحو مصير جديد، ليس على طريقة هتلر إلى الكارثة؛ فالرجل أيضاً كان خطيباً مفوهاً مصقعاً، بل إلى الخير العميم، في تغيير مصير أمة كانت تتحول إلى المعاصرة مع روح القرآن العظيم. لم يكن الرجل يتحدث عن ذات الله وصفاته، وهو الموضوع الذي حرصت عليه مدارس علم الكلام، فضلاً عن الشكل الذي يتشكل في ذهن طلبة معاهد التحفيظ، بل كان يتحدث عن الله الحي الذي لا يموت، القوي المتين، الفعَّال لما يريد، المتجلي على العباد بالرحمة، الذي هو معهم أينما كانوا، يسمع نجواهم وما تُخفي الصدور، تماماً كما كان المسلمون الأوائل يستحضرون ذلك المعنى، فأمكنهم بالتالي أن يكونوا صناعاً للتاريخ. وهي الروح العظيمة التي تجلت في بدر وحنين والخندق ومؤتة، وفي حوار المرأة التي تجادل الرجل و”الله يسمع تحاوركما”. فالحقيقة القرآنية - كما يذكر مالك بن نبي في كتابه - تظهر هنا بأثرها المباشر على الضمير والأشياء والناس، في تولفية نادرة وخلطة ماهرة باهرة مميزة لصناعة التاريخ. والفكرة التي كانت مجردة من قبل، أخذت هنا وضعها في تركيب ناشط للفكر والعمل والنهضة، مثل دينمو السيارة الذي يعمل لشحن البطارية بالطاقة، أما نحن اليوم، ومع معاهد التحفيظ الجامدة بصفة خاصة، فلا نزيد العقل إلا خمولاً وسباتاً، والروح إلا انتكاساً وانكفاءً… كما هو واقع العالم الإسلامي الذي يعيش عام 2010 للميلاد متجمداً عند عام 1431ميلادي، قبل عصر الثورة الفرنسية، في أيام المملوك سعيد جقموق من عصر المماليك الشراكسة… وهيهات لمن فكَّر وقدَّر فقُتل كيف قدر. ويذكر عن الإمام الشافعي أنه كان في ضيافة الإمام ابن حنبل، وأنه سهر ذات ليلة على حديث “يا عمير ما فعل النغير”، فاستخرج بضعاً وسبعين حكماً شرعياً، مثل ينبوع متدفق من المفاهيم. هذا ما كان من الحديث، فما ظنك بالسبع المثاني من الذكر والقرآن الحكيم؟. ولذا، فما يُنصح به في حفظ القرآن أن يحفظ المرء لصلاته مقاطع من أماكن مختلفة من الكتاب العزيز، وأنا رجل أزعم لنفسي أنني اشتغلت على القرآن جيداً؛ فأخذ مني ثماني حجج من العمل الدؤوب والمتواصل، كنت أخرج خلالها إلى البرية والمصحف في يميني؛ فحفظت سوراً أذكرها في أماكن خاصة، مثل سورة مريم مع سفرة العراق البرية، وسورة البقرة في مدرسة “العروبة” الثانوية، وسورة يونس على ظهر بيت صديقي حسان جلمبو الذي قضى نحبه وسط ظروف غامضة في تدمر، وسورة آل عمران بجنب المسجد الكبير في القامشلي حيث يوجد سوق الخضار وموتورات الديزل بمحلات تصليح السيارات… وكلها تطفئ صوت الأذان. فقد اختير ذلك الموقع لبناء المسجد في مكان قصي، وجُعلت تحته دكاكين للإيجار، فجاءت المهن من كل حدب وصوب، من قرع وضرب وثقب ولحم ولحام… وهكذا!.