لقد وصف مالك بن نبي حسن البنا في كتابه وجهة العالم الإسلامي (ص181) وكيف كان يتفاعل مع القرآن والجمهور، بأنه لم يكن يتلوه عليهم تلاوة، كما في معاهد التحفيظ الميتة المسجاة كجثة، كما لم يكن يفسر القرآن تفسيراً؟ بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها؛ فالقرآن لم يعد على شفتيه وثيقة باردة أو قانوناً محرراً، بل كان يتفجر كلاماً حياً، ونوراً آخذاً يتنزل من السماء، فيضيء ويهدي، ومنبعاً للطاقة يكهرب به إرادة الجموع؛ فيسير بها نحو مصير جديد, ليس على طريقة هتلر إلى الكارثة.. فالرجل أيضاً كان خطيباً مفوهاً مصقعاً، بل إلى الخير العميم، في تغيير مصير أمة، وبهذا السبب تم اغتياله لاحقاً بعد أن تفطنت دوائر الاستعمار العالمية لخطر تحول الأمة المصرية فعلياً إلى المعاصرة مع روح القرآن العظيم. لم يكن الرجل يتحدث عن ذات الله التي حرصت عليها مدارس علم الكلام عن الله العقلي، فضلاً عن الشكل الذي يتشكل في ذهن طلبة المعاهد المقرودين، بل كان يتحدث عن الله الحي الذي لايموت، القوي المتين، الفعَّال لما يريد، المتجلي على العباد بالرحمة والقهر، الذي هو معهم أينما كانوا، يسمع نجواهم وما تخفي الصدور، تماماً كما كان المسلمون الأوائل يستحضرون هذا المعنى فصنعوا التاريخ؟. تجلت في بدر وحنين والخندق ومؤتة وفي حوار المرأة تجادل زوجها والله يسمع تحاوركما.. فالحقيقة القرآنية كما يذكر مالك بن نبي في كتابه، تظهر هنا بأثرها المباشر على الضمير والأشياء والأناسي، في توليفة نادرة وخلطة ماهرة باهرة مميزة لصناعة التاريخ؟. والفكرة التي كانت مجردة من قبل، أخذت هنا وضعها في (تركيب Structure) ناشط للفكر والعمل والنهضة، مثل دينمو السيارة لشحن البطارية بالطاقة، أما نحن اليوم مع معاهد التحنيط والتجميد العقلي، فلا تزيد العقل إلا خمولاً وسباتاً وشخيراً عميقاً، وهيهات لمن فكَّر وقدَّر فقُتل كيف قدر.. ولا الروح إلا نكساً وتعساً، ولا تغير أمورنا إلا نحو الأسوأ، كما هو واقع العالم الإسلامي الذي عاش عام 2010م متجمداً عند عام 1431 ميلادي، قبل عصر الثورة الفرنسية أيام المملوك سعيد جقموق من عصر المماليك الشراكسة يُذكر عن الشافعي لمّا كان في ضيافة ابن حنبل في ليلة، أنه سهر طول الليل على حديث (ياعمير مافعل النغير) فاستخرج بضعاً وسبعين حكماً، مثل ينبوع متدفق من المفاهيم هذا ماكان من الحديث فما ظنك بالسبع المثاني من الذكر والقرآن الحكيم؟ وكنت نصحت إحدى الأخوات أن تحفظ لصلاتها مقاطع موسيقية جميلة، من أماكن متناثرة من القرآن، وأنا رجل أزعم لنفسي أنني اشتغلت على القرآن جيداً؛ فأخذ مني ثماني حجج من العمل الدؤوب الصموت المتواصل، كنت أخرج خلالها إلى البرية صحبتي الطيور وإشراقة الشمس ولفح الهواء والمصحف في يميني؛ فحفظت سوراً أذكرها في أماكن خاصة، سورة مريم مع سفرة العراق البرية، البقرة في مدرسة ثانوية العروبة, سورة يونس على ظهر بيت صديقي حسان جلمبو, سورة آل عمران بجنب المسجد الكبير في القامشلي وسوق الخضرة وموتورات الديزل الأرمنية تطفئ صوت الأذان.. وهكذا.. قلت لها أن تحفظ مثلاً آخر سورة الشعراء بدءاً من (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين). آخر سورة البقرة من (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون), آخر سورة آل عمران (إن في خلق السموات والأرض لآيات لأولي الألباب), آخر الفرقان (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً), آخر سورة النحل (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) الجزء 27 ربما كله مثل سورة الذاريات والقمر والطور والنجم والواقعة والرحمن فهي موسيقية، ولا تنس «ق» بدلاً عن الحديد وآخر سورة هود فقد شيبت الرسول عليه الصلاة والسلام, وهي تشرح مصير فرعون وجنوده من العربان الغربان.. وربما كل الجزء 29 مثل الملك والقلم والحاقة والمعارج ونوح والجن والمزمل والمدثر والقيامة والدهر أو الإنسان والمرسلات, ولا تنس سورة مريم ربما كلها والقسم الأول من سورة طه، والجزء الثلاثين كله بالتأكيد؛ من سورة النبأ والنازعات وعبس والتكوير والانفطار والمطففين والانشقاق, ولاتنس البروج في محنة المؤمنين على مدار التاريخ حرقاً وقتلاً وغرقاً ورمياً للضواري, وسورة الأعلى والطارق والغاشية والفجر والبلد ختاماً بسورة الشرور هكذا أسميها عن الاستعاذة من المؤامرات إذا حبكت وحيكت، والحسود إذا أضمر الشر وبيَّت، والليل وما يحمل من ظلام وكوارث.. والختام الرائع للقرآن من سورة الناس في معادلة ثلاثية، إن الملك والرب والإله واحد وهي لله تعالى فلا ملك في الأرض ولا رب ولا إله سواه إلى يوم الدين. هزّت رأسها ولم أعرف مدى استيعابها ويروى عن حسن البنا أنه قال: إذا كررت فكرتك عشرين مرة وظننت أنهم فهموا عليك فأنت متفائل. وهذه إحدى مشاكل حفظ القرآن، أي المتشابه، فو الذي نفسي بيده إنه لأشد تفلتاً من الإبل في عُقُلها، وراجع آيتي دخول القرية في سورة البقرة والأعراف تعطيك الخبر اليقين؛ فهناك أحد عشر مترادفاً، والقوي المتين من أمسك بها؛ تأمل وقارن بين سورتي البقرة والأعراف بالترتيب: (2+1) وإذ قلنا... ادخلوا هذه القرية.. وإذ قيل لهم... اسكنوا هذه القرية.. (4+3) فكلوا منها حيث شئتم رغداً... وكلوا منها .. بدون رغد (5) وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة.... وقولوا حطة (مقلوبة الترتيب) وادخلوا الباب سجداً.. (6) نغفر لكم خطاياكم... نغفر لكم خطيآتكم (7) وسنزيد المحسنين... في سورة الأعراف (بدون واو) سنزيد المحسنين؟ (8) فبدل الذين ظلموا... فبدل الذين ظلموا منهم (بإضافة منهم) (10+9) فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً... فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء (11) بما كانوا يفسقون... بما كانوا يظلمون فهذه هي قصة حفظ القرآن وفهم القرآن، وربما مر العديد من القراء فلم يتفطنوا لهذه الفروق الدقيقة المحيرة والمتعبة جداً في الحفظ، فضلا عن المحافظة.. إنها تذكرني بمادة الجيولوجيا، حين حاولت حفظ خواص المعادن؛ فعييت ولم أتابع، وهي مشكلتي الشخصية مع القرآن أن لايتفلت من صدري، لذا اعتمدت القراءة الدورية له، فإذا ختم أعيد ولا أملّ من الغوص في بحر المعاني لقنص الدرر واللؤلؤ والمرجان.. فبأي آلاء ربكما تكذبان...