في شهر رمضان الماضي أرسل الزميل والكاتب القدير محمد صالح الرويشان رسالة تهنئة خاصة لفئتين من اليمنيين هما الإصلاحيون والحوثيون. وقال: إن إفراده لهاتين الفئتين بالتهئنة وتعليقه الأمل عليهما في نصر الثورة لا يعني استبعاده لغيرهما، ولكن لأنه يرى أن صلاح العلاقة بين هاتين الفئتين فيهما خير لهما وللوطن، وفي فساد علاقتهما شر لهما وللوطن. فالتخصيص - حسب ما أوضح الأخ الرويشان - كان مؤقتا،ً بعد أن وضع في الاعتبار ما يجري على الأرض في تلك المرحلة. لقد اختار الكاتب العزيز مناسبة إسلامية هي شهر رمضان لتهنئة فئتين إسلاميتين بتلك المناسبة، ولكني لا أجد الآن سوى مناسبة العام الميلادي الجديد وانتصارات الثورة لتهنئتهما بها، وأدق ناقوس الخطر - كما فعل زميلي في وقت مبكر- بالتحذير من أن أخطر ما يمكن أن يصيب الثورة الشبابية في مقتل هو خروج الصراع الإصلاحي الحوثي عن نطاق التحكم. ورغم اتفاقي مع ما طرحه الزميل العزير محمد الرويشان، إلا أني أجد نفسي الآن أخالفه جزئياً وأقول: إن ذلك التخصيص المؤقت الذي أفرده للحوثيين والإصلاحيين في وقت مبكر لا يبدو أنه سيظل مؤقتاً، بل ربما نحتاج إلى ديمومته أثناء الثورة وبعد انتصارها. ونظرًا لأهمية الأفكار التي طرحها الزميل الرويشان فإني سأخرج هنا عن العرف الصحفي في هذا المقال، وأضع آرائي المتشنجة الناقدة على الرف، مستعيضاً عنها مؤقتاً بفقرات مفصلة مع قليل جداً من التصرف من المقال الذي كتبه قبل شهور ابن خولان الحكيم الزميل الرويشان الذي أحسبه إصلاحياً، لكني لم أسأله يوماً عن انتمائه الحزبي، فقد وجدت أن انتماءه اليمني والإنساني يغلب على آرائه، ولم يعد هناك أي جدوى من تصنيفه سياسياً مع هذا الحزب أو ذاك. وسوف يلمس قراء (الجمهورية) ذلك من خلال آراء الرويشان التي سأوردها هنا، ورغم أنه طرحها في رمضان الماضي، إلا أنها مازالت طازجة، وكأن كاتبها يتحدث عما يجري اليوم. ولكي نحاول أن نزيل الشكوك بين الحوثيين والإصلاحيين، يتحتم علينا أولاً أن ندرك أن الإصلاح وحركة الشباب المؤمن كلاهما تأسس بعد الوحدة اليمنية في عام 1990، ولكنهما يمثلان امتداداً للفكرين الإخواني والزيدي، اللذين بدأت العلاقة تفسد بينهما منذ أواخر السبعينيات، بعد أن سبق ذلك عقود من الوئام والتعايش والسلام، وذلك لعوامل ثلاثة يسردها الرويشان كما يلي: الأول: قيام الثورة الإيرانية، وما مثلته من نموذج ثوري للحركات الإسلامية عامة وللشيعة على وجه الخصوص، وهو النموذج الذي سرعان ما شوّهته النزعة المذهبية. الثاني: تنامي التأثيرات السلفية القادمة من السعودية خاصة والخليج عامة في اليمن، وبالتالي على فكر وتنظيم الإخوان، وبدا واضحاً أن تلك التأثيرات جاءت كمعادل لتأثير الثورة الإيرانية ومذهبيتها. الثالث: استلام علي عبدالله صالح للحكم في اليمن، واعتماده على سياسة “فرّق تسُد” أو ما اسماه “لعبة الكروت” أو “الرقص فوق الثعابين”، وهي السياسة التي أفسدت الحياة السياسية في البلاد، وجعلت الأوضاع في حالة تأزم واحتقان دائم. ويقول الأخ الرويشان: إن هناك اتهامات متبادلة بين الإصلاحيين وأنصار الله (الحوثيين)، بمحاولة إجهاض الثورة أو الاستيلاء عليها. وفي خضم التنافس المرير بين هذين المكونين من مكونات المجتمع اليمني والثورة، على اختلاف في تقدير حجم وأهمية كل مكون وفي مسؤوليته عن ذلك الصراع، تنشب مواجهات بالأيدي والألسنة في الساحات والوسائل الإعلامية وتحالفات منطقية وأخرى مشبوهة، وكل ذلك إذا لم يتم احتواؤه ومعالجته بالحكمة اليمانية وفي إطار المسؤولية الوطنية والإسلامية بين طرفي الصراع سوف يؤدي إلى كارثة لن توفر أحداً ولا يعلم إلا الله مداها. ويتابع قائلاً: إن الاختلاف والوحدة والتعاون والتعايش بين المختلفين كلها من سنن الله في خلقه، ولكن المشكلة تكمن حين نركز على نقاط الاختلاف أكثر مما نركز على نقاط الاتفاق، مما يؤدي إلى تعميق الاختلاف وتجذيره بالعصبية والتعصب، فيتحول الاختلاف من مجرد صراع فكري أو سياسي إلى صراع مذهبي وطائفي وحزبي تضيع فيه الحقائق والمبادئ. ومن ينغمس في أتون الصراع سيتصور أن الوطن لا يتسع لكلا الفريقين، وأن ربح أحدهما لا يمكن أن يتحقق إلا بخسارة الآخر، وعلى العكس من ذلك، فإن الخروج من وتيرة الانفعال ودائرة الانهماك في الفعل ورد الفعل مع تشغيل الفكر والعقل يؤديان إلى نزع فتيل الصراع وتحويل الاختلاف إلى آلية فعالة للتنافس المثمر والمفيد للطرفين وللوطن. ويرى الكاتب الحكيم أن تجربة اللقاء المشترك مثلت بحق تجسيداً رائعاً للحكمة اليمانية وتجربة حضارية رائدة في العالم العربي والإسلامي، حيث جمعت هذه التجربة الفريدة بين أحزاب كان الاختلاف والصراع هو السمة السائدة فيما بينها. ولكن هذه الأحزاب قد تنبهت إلى أن خلافاتها وصراعاتها لا يستفيد منها غير الاستبداد والتخلف، وتوصلت إلى تأسيس إطار سياسي ينظم العلاقة بين تلك الأحزاب ويوجهها لخدمة الأهداف المشتركة، ويقوم بمعالجة المسائل الاختلافية في إطار الحوار الموضوعي أو التنافس الشريف. وسيكون من الغرابة بمكان ألاّ يستفيد الإصلاح – وهو الحزب الأكبر في منظومة المشترك – والحوثيون “أنصار الله” من هذه التجربة اليمنية في تنظيم العلاقة بينهما، خاصة وأن اثنين من الأحزاب الداخلة ضمن إطار المشترك – حزب الحق وحزب اتحاد القوى الشعبية - مقربان من الحوثيين فكرياً وسياسياً، كما أن الاشتراكي- الحزب الثاني في المشترك - يتمتع بعلاقة جيدة معهم. ويتابع: سيقول المستغرقون في أتون الخلاف الحوثي الإصلاحي أو الذين يريدون للصراع بينهما أن يستمر وأن يتفاقم: إن نقاط الاختلاف والتباين بين الطرفين هي أكبر من أن يحتويها اللقاء المشترك، خاصة وأن هناك تاريخاً من الاتهامات المتبادلة وعدم الثقة بينهما يصعب تجاوزه حالياً على الأقل. والحق أن هذا القول غير صحيح، فما يجمع الحوثيين والإصلاحيين فكرياً - رغم الخلاف - هو أكبر مما يجمع الإصلاحيين بالناصريين على سبيل المثال، كما أن العلاقة بين الإصلاح والاشتراكي كانت أكثر التهاباً وحساسية عند تأسيس المشترك من علاقة “أنصار الله” والإصلاح حالياً. وإن من يقرأ ما خطه يراع الأديب والشاعر والسياسي أحمد بن محمد الشامي - يرحمه الله - في ملحمته التاريخية ومذكراته الرائعة “رياح التغيير في اليمن” يدرك كيف أن العلاقة في صنعاء 1948م بين الوسط الزيدي - ممثلاَ في الشامي نفسه - وحركة الإخوان المسلمين - ممثلة في الفضيل الورتلاني - لم تكن أبداً علاقة توجس وارتياب مذهبي، بل كانت علاقة تفاعل إنساني رائع يتجاوز كل العقد التي نشأت في العقود الأخيرة. فقد سجل الشامي في كتابه إعجابه وتأثره الكبيرين بشخصية الورتلاني وأثنى عليه ثناءً أجد من المفيد إثبات طرف منه؛ يقول الشامي تحت عنوان فرعي “ليس زيدياً بل حنيفاً مسلماً” ما نصه: “وقد يقول قائل: وما شأن الورتلاني والبنا باليمن وإمامتها ونوع الحكم فيها، وهما ليسا (زيديين)، ولا يقولان بالإمامة؟ فأقول: لقد كان لدى الأستاذ الورتلاني من المعرفة بكتاب الله وسنة رسوله والفقه وأصوله، والفهم والعبقرية، والفصاحة والتقوى، ما يخوله أن يفهم ويعرف ما فهمه وعرفه الإمام زيد بن علي، وأن يُنكر ويثور على ما أنكره وثار من أجل إزالته الإمام زيد بن علي، الذي عندما ثار لم يكن (زيدياً) بل كان حنيفاً مسلماً، كما كان جده الحسين من قبله، وكما كان الورتلاني والبنا من بعده، وكما سيكون من بعدهما فلان، وفلان، وفلان.” انتهى ص 249 الطبعة الأولى.