وجود الجماعات الدينية المتشددة في اليمن الهادفة إلى بناء إمارات إسلامية وفرض تسلطها المذهبي على المجتمع بقوة السلاح أصبح أمراً واقعاً، تستوي فيه مديريات صعدة والجوف وحجة مع مديريات ابين وشبوة والبيضاء.. ولم يعد مجدياً اتهام النظام بصناعة هذه الظواهر، فالنظام في طريقه إلى السقوط وعلينا أن نفكر بجدية بكيفية مواجهة تركته الثقيلة بمعيار وطني واحد.. ثمة نخبة إعلامية ومثقفة تحاول التعامل مع ظاهرة بناء الإمارات وفرض التسلط المذهبي بقوة السلاح بمعايير مزدوجة. تريد أن تحابي طرفاً من الظاهرة لأن الغضب الأمريكي عليه أقل من الأخرى، بل ترى ضرورة بقاء هذه الطرف نكاية بتوجهات دينية اندمجت في العملية السياسية الديمقراطية المدنية. يجب أن نعترف أن سياسات النظام التدميرية وضعتنا اليوم أمام تحدٍ خطير لا ينبغي التعامل معه بروح مذهبية طائفية ولا بمنطق الحسابات الضيقة ولا بالمعايير التي تفرضها أجندة الدعم المتدفق من السفارات السنية والشيعية والامريكية. لم يعد مجدياُ الاكتفاء بالإشارة إلى دور سياسات النظام المتهالك في إيجاد هذه الظاهرة، فضلا عن كون الحديث عن دور سياسات النظام في تهيئة المناخات الخاصة لنمو هذه الظاهرة لا يعني تجاهل الأسباب الخاصة الداخلية والخارجية التي ساهمت بإيجاد الظاهرة. أصبحنا اليوم أمام أمر واقع يجب أن نتعامل مع تحدياته بمسؤولية وطنية وإنسانية قبل أن تلتهم طرفا أنياب الصراع الطائفي تفاحة ربيع الثورة ونصبح بدون وطن. لا شك أن النظام استمرأ العبث بورقتي القاعدة والحوثية لأغراض تافهة وحقيرة تجسد أبرزها في التخلص من وحدات الجيش الوطني الجمهوري وبناء الوحدات العسكرية العائلية البديلة، غير أن النظام قام بتصعيد استخدامه لهذه الورقة بعد حادث دار الرئاسة في يونيو الماضي بصورة تدميرية وجنونية . ولأن النظام في مرحلة السقوط والتهاوي فإن عبثه بهذه الأوراق أصبح وخيم العواقب لأنه لم يعد يملك زمام السيطرة والتحكم في قواعد اللعبة، فعندما قام النظام بدعم جماعات مسلحة في أبين للإيهام بأن هذه الجماعات من تنظيم القاعدة وساعدها في السيطرة على أبين اتضح له بعد ذلك ان تنظيم القاعدة الحقيقي كان يخترق هذه الجماعات بل كانت القاعدة أكثر قدرة منه على الاستفادة من عبثه بالأوراق الأمنية، فخرجت اللعبة عن سيطرته وأصبحت عبئاً عليه وعلى الوطن. وذات الأمر يتكرر في صعدة حين يقوم بتسليم المعسكرات للقبائل والحوثيين ليوجد صراعا بين الطرفين ، في حين يتعامل الحوثييون مع الامكانات العسكرية والاجتماعية للنظام باعتبارها تركة الرجل المريض التي يجب أن يأخذوا منها أكبر حصة. ولهذا بدأنا نسمع عن محاولات التوسع والتمدد، و حديث البعض عن تحول الحوثيين من أقلية كانت تتعرض للاضطهاد،إلى جماعة مسلحة تضطهد الأقليات كما هو واقع الحال في تعاملهم مع الجماعة السلفية في دماج. وفي جميع الأحوال فإن القاعدة في أبين والحوثية في صعدة نتاج قديم لأزمة الهوية السياسية للنظام السياسي في اليمن الذي انقلب على قواعد شرعيته، فالنظام السياسي في اليمن ليس نظاماً عائلياً كشأن بقية الأنظمة في الدول المجاورة، ولكنه حاول أن يكون كذلك، متنكراً للجذور الدستورية والديمقراطية التي يرتكز عليها نظرياً. و كما يقول المفكر العربي حسن حنفي “طالما هناك غياب لنظرية العقد الاجتماعي، حتماً سيظل هناك عنف سياسي فستخرج دوماً طوائف لديها نظرية شرعية للحكم وشرعية تاريخية ودينية أمام أنظمة مهترئة”). ونستطيع القول: أن هذا الخروج للطوائف والجماعات التي تمتلك نظريات شرعية وتاريخية للحكم،هو ما بدأت تعاني منه اليمن قبل اندلاع الثورة المباركة وأن تصاعد موجات العنف المذهبي المسلح في أبين وصعدة وحجة ينم عن ادراك هذه القوى المذهبية أن نجاح الثورة في ترسيخ الهوية السياسية لليمن على أسس ديمقراطية صحيحة سيقطع النبع الذي كانت تستفيد منه في تجنيد الأعضاء والطموح في بناء إماراتها الخاصة تعتقد الجماعتان “القاعدة والحوثية”أن بناء دولة على أسس صحيحة سيفقدهما مبررات البقاء وسيساهم في محاصرة البيئة التي كانت خصبة للاستقطاب ومن هنا لجأ الحوثيون مؤخرا إلى جرجرة السلفية التقليدة إلى صراع مذهبي قتالي يستهدف الأقلية السلفية بهدف جرجرة القبائل السنية والزيدية في المناطق المجاورة إلى التدخل وتوسيع رقعة المواجهات وايجاد مبررات جديدة للتجنيد بعد سقوط مبرر استهدافهم كأقلية ومن المعلوم أن كلتا الجماعتين القاعدة والحوثية تعتبر نفسها ذراعاً عسكرية وجماعة وظيفية مسلحة لمذهبين متنافسين سنياً وشيعياً وتسعى كلتا الجماعتين إلى فرض سيطرتهما على مناطق جغرافية معينة،و إداراتها وفق منهجية القاعدة المعروفة ب«إدراة التوحش» كالإمارات التابعة للقاعدة في أفغانستان والصومال،والإدارة التابعة لحزب الله في جنوبلبنان. يستفيد كل من الحوثيين والقاعديين من تجارب بعضهما،وتؤكد بعض الدراسات أن«نجاح الحوثيين في مواجهة الجيش اليمني، قد أغرى القاعدة بانتهاج ذات الأسلوب الأمر الذي يفسر الزخم القوي للقاعدة وتحرك أنصارها مؤخراً بصورة علنية في بعض محافظات الجمهورية” ما يستطيع الباحث أن يجزم به من خلال استقراء واقع علاقة تنظيم القاعدة مع مختلف الأطراف هو أن انسداد آفاق التغيير السلمي،وتراجع الهامش الديمقراطي في اليمن في السنوات الأخيرة، ساهم بصورة كبيرة في تحويل خيارات العنف الديني إلى خيارات جذابة، فضلاً عن دور هذا التراجع في تحويل لغة تنظيم القاعدة والجماعة الحوثية، إلى لغة قادرة على الإقناع للشباب المتدين في مجتمع يمتلك السلاح،وتتفشى فيه الأمية ويعشش في ربوعه الفقر ،ثلاثية السلاح والفقر والأمية تجعل الكثير من أبناء المجتمع أدوات رخيصة للجماعات المتقاتلة،ومع تهاوي العملة المحلية فإن الريال السعودي والايراني يلعب دوراً فاعلاً في تجنيد المقاتلين وتجنيد الأقلام التي تدافع عن هذا الطرف أو ذاك. إننا في أمس الحاجة إلى نخبة مثقفة تتحمل بؤس الواقع المعيشي، ولا تتهافت على بوابات الجهات المانحة ولا تتحول إلى أدوات مستأجرة لأجندات الاستقطاب الطائفي،لتتحمل مسؤوليتها بصراحة في تشخيص الواقع وتحديد أولويات النضال الثوري واٌلإصلاح السياسي. الجماعات الدينية في اليمن شافعية كانت أو زيدية أوصوفية أوإخوان وسلفية وشيعة جميعها في حاجة ماسة لتوحيد موقفها من قضية بناء الامارات الدينية وفرض التسلط المذهبي على المجتمع بقوة السلاح سواء في ابين وشبوة والبيضاء أو في صعدة و الجوف وحجة، صحيح أن خطاب الحوثيين أكثر قدرة على التكيف مع الخطاب الوطني، غير أن الخطاب لا يغني عن السياسات العملية على أرض الواقع ينبغي أن يسارع الحوثيون إلى دمج حركتهم في حزب الأمة أو غيره وبهذه الخطوة سنواجه تحديات بناء الامارات المذهبية دون أي تحيزات لطرف على حساب آخر. لم يعد مجدياً أن شعور شباب الساحات بالخوف والخجل من مطالبة أعضاء تنظيم القاعدة بالانضمام إلى ساحات الثورة،والترحيب بإعلانهم السابق عن تواجدهم في الساحات بدون أسلحة وعدم التضايق من هذا الإعلان استرضاء للخارج، أو استجابة لنزعات اقصائية على حساب الروح الوطنية. وما المانع من اضطلاع الشباب بمساعدة الاحزاب و اللجنة العسكرية على التفكير الجدي بدمج المليشيات المسلحة التابعة للحوثي والقاعدة في المؤسسات العسكرية والمدنية ومطالبة الجهات الخارجية بالكف عن استهدافهم، طالما التزموا التعبير عن أفكارهم ومطالبهم بالطرق السلمية و القانونية. نحن في مرحلة حساسة لا تكفي فيها المراهنة على الحماسة الثورية دون التفكير الجدي من الآن في كيفية معالجة بعض افرازات النظام التدميرية والاشكاليات الخاصة ببعض المكونات في الصف الثوري من الحوثيين في شمال الشمال إلى الحراك في الجنوب إلى القاعدة في جنوب الوسط فهل سيكون الشباب أدوات ضغط لإيجاد حلول وطنية عملية لهذه الاشكاليات ام سينجح النظام في تحويلهم إلى إشكالية أخرى تعيق إعادة البناء المؤسسي للدولة. هذا ما ستجيب عليه الوقائع في الأيام القليلة القادمة. وللحديث بقية.. [email protected]