هي كذلك فعلاً لولا بُعد البون بين “الساسة” و”الساحة”!.. ولولا أن السياسيين – والإعلاميين طبعاً، تبعاً لهم - من الأطراف اليمنية الموقعة على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية تهافتوا مؤخراً على تكريس صورتَي: باحث عن حصانة ومتطلع إلى سلطة!. وبذاك التكريس تجاوز الساسة والجهات الموقعة المهام المنصوص على أدائها في الآلية التنفيذية “المعدّلة” لبعض نصوص المبادرة، مراعاةً لتطورات وظروف معينة؛ إذ أنفق وقت وجهد كبيران أثارا الساحة على المنظومة السياسية كلها وعلى اتفاق التسوية المتمثلة بالمبادرة وآليتها؛ لتركيز الأطراف المعنية على نقطتي”الحصانة والانتخابات الرئاسية المبكرة” الواردتين ضمن الاتفاق، لكنهم انصرفوا عن حشد الوعي والاستيعاب لما تضمنته المبادرة من نقاط تلبي مطالب الشعب.. والشباب اليمني تحديداً.. وتبعاً لذاك الانصراف، انفصل الشعب بشبابه وبعض شيبه عن المبادرة، معلنين رفضهم إياها؛ لإمعان الساسة في تجهيلهم بباقي مضامينها، فيفوت على الشباب ما تقاربهم به باقي تفاصيل المبادرة. تقصير الساسة عن التواصل بشباب الساحة وتوعيتهم بالاتفاق وشرحه لهم ليدخلوا في خضم تنفيذه.. لا رفضه، ساعد بشكل مقصود - ربما - على إشاعة مناخ الرفض الشعبي.. من خلال الإخلال بتنفيذ أهم بنود الآلية التنفيذية.. وهو البند الخامس عشر الفقرة (خ) الناص على أن “تشكل الحكومة لجنة اتصال تتولى وبشكل فعال التواصل مع حركات الشباب في الساحات من مختلف الأطراف وباقي أنحاء اليمن لنشر وشرح تفاصيل هذا الاتفاق”.. كما أُهمِل البند الخامس والعشرون الذي حدد 15 يوماً من دخول المبادرة حيز التنفيذ في غضونها “ينشئ نائب الرئيس ورئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني المكلف لجنة التفسير لتكون مرجعية للطرفين لحل أي خلاف في تفسير المبادرة الخليجية والآلية”. كان من المفترض تجسيد تلك النصوص عند أول محطات المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية، إذا تصدرت أولويات ومهام الأطراف السياسية التي تجاوزت تلك البنود لتختلف على تقدم إجراء وبند متأخر على إجراء وبند يتقدم زمناً وموضوعاً، دون أن يأتي حل المفسرين والمرجعيين المحليين!.. ويتراءى من “النصوص المنسية ضمناً” و”المؤجلة فعلاً” أن واضعي ورعاة المبادرة وشركاء وشهود توقيعها وتنفيذها هدفوا بها إلى توفير “السند الشبابي والدعم الشعبي” من “حركات الشباب في الساحات من مختلف الأطراف وباقي أنحاء اليمن”، ليتقلص رفض لن يتلاشى تماماً باعتباره فعلاً طبيعياً في ظروف غير طبيعية.. وهكذا “ما كل ما يتمنى المرء - من (وفي) المبادرة - يدركه رعاتها وينفذه أطرافها”! والثابت لدى عدد من مراقبي الوضع اليمني وتطوراته وارتباطاته الخارجية، أن المبادرة الخليجية المباركة والنافذة دولياً بالقرار الأممي 2014، لم تأتِ بآليتها التنفيذية لمنفعة النخبة اليمنية وحدها، بل لكل الجموع اليمنية بمختلف اتجاهاتها ومشاربها ومواقفها من المبادرة ورعاتها، لاسيما وقد صدرت بعد: تداعي فئات من الشعب إلى المطالبة بالتغيير.. وصمت فئات من الشعب مؤثرة السلام.. وتحفز فئات من الشعب لتحقيق الاستقرار. فاستوعب المجتمعان الإقليمي والدولي ما يريده كل فئات المجتمع المحلي، وذهبوا مذهباً واحداً صاغ فقه “المبادرة الخليجية والآلية التنفيذية” بأركانها الثلاثة: السلام والاستقرار والتغيير.. فلماذا، وقد جاء حل جامع، تذهب الأطراف الموقعة والفئات المستهدفة مذاهب شتى بين: تنفيذ مخل بالزمن المحدد.. وتقديم إجراء متأخر على بند متقدم زمناً وموضوعاً.. ورفض لمجرد الرفض أكان عن علم أو عن غيره؟!. إن ما تحققه المبادرة وآليتها التنفيذية، متى نفذت كاملة ووعاها “الكافة” -بتعبير ابن خلدون - هو: تحصين البلد من بلوغ ذروة دامية، وتجنب مآلات مجهولة، والحرمان من نهايات مهينة.. فهل يُبحث اليوم عن أثرِ من دم ومهانة يقيدان ضد مجهول؟ أو يرجو الناس غير الاستقرار والسلام والتغيير.. الناضج والواعي والمبصر!. إن تقصير ساسة اليمن في حق أية ساحة، وإخلالهم بتنفيذ التزامهم ومسئولياتهم تجاه وطنهم وشبابهم، لا ينبغي مقابلته بالانجراف للحماس والوقوع في حبائل إغراء اللحظة بخوض”مقامرة” تكلف البلد انقطاعاً عن محيطه، وتجدد عزلته عن العالم الذي أتاه بمشروع سياسي ينقل البلد كله، بكل أطيافه، من طور القلق إلى طور الأمان.. فلم يعد الزمان كما كان.. فالعالم كله يواكب التغيير، وما من أحد يُغالب سُنّة الكون. إذاً.. من يرد التخلي عن جمود خلفياته وموروثات العداء والتفسيرات التآمرية فسيجد سبيلاً للتحقق من أن المبادرة أتت للشعب ولم تأتِ للنخب؛ كونها متاحة للمطالعة - كما للتنفيذ - بين يدي من يود دعمها وقبولها قبولاً واعياً يراعي مصلحة اليمن.. كل اليمن.. حاضراً ومستقبلاً. [email protected]