حينما أفلت الشباب من قبضة العسكر.. أشعلوها ثورة، قائلين: هذا الوطن لنا.. كان ذلك من مكان قصي يشبه البرزخ الذي يفضل تخوم الموت عن فضاءات الحياة، انبثقت هذه الساحة، هذه الثورة، ساحة الحرية تعز قريبة التشبيه لهذا القول، وليست للساحة وحدها ستبدو موفقة هذه الصورة، ولكن لتعز، التي تبدو على وجه الخصوص ساجدة خرساء منذ زمن، حيث تمتلك رصيداً زاخراً من الطاقات، ومنجماً شبابياً يفوق عقود حكم النظام بمئات الآلاف، إلا أنها عاشت طيلة حكمه راضخة لأنواع وصنوف فتكه. في مساء 11 فبراير الذي مرت ذكراه الأولى أمس الأول، وهو يحمل مراسيم الحب لليمنيين، الليلة التي مارس معها شباب فبراير في مدينة تعز غوايتهم مع الحرية، ضربوا موعداً مع الكرامة، موعداً مع الثورة، وأشعلوها ثورة فكان لهم ما أرادوه، كانت اللحظة بمثابة الدخول في حالة اللامعقول، لكن في حضرتهم هو الممكن والمتاح، اندفعوا إلى ساحة محطة صافر، غرب المدينة، كانوا مجموعة قليلة انتشرت وتوسعت، وما لبثت أن صارت بحجم وطن، وحينما يشعر الشبان أن هناك لحظة تلامس بين قلوبهم وموطنهم الأصلي الأصيل، لا جدال في أنهم يقبضون عليها، وتخيلوا كيف تملكتها قلوبهم، وقرروا أن يدفعوا حياتهم ثمناً لمعشوقتهم، كانت ليلة الثورة غريرة تحبو، تخطو، تركض في كل مساحة ممكنة. لم يجربوا لعبة غيرها أو يستسلموا لملاحقات الشرطة ورجال الأمن، لم يهادنوا، عبرت جدرانهم القوات الخشبية والبشرية والاسمنتية، تجاوزت موانعهم وأسيجتهم، وكلما تكاثف العسكر والمرتزقة، اشتد عود الثورة وقوى، في ضفة وطن الساحة، قطعت تكتلات الشباب كل نقاطهم المظلمة، (نقاط التفتيش والاعتقال والسلب والنهب وفي أغلب الأوقات القتل)، وهاهي تصل إلى مسافات من الضوء والأمل، والحقيقة الماثلة، كانت هذه نقطة الثورة وبداية رحلتها، سافرت في فضاءات البلد وأشرقت في دنيانا. لم تمر المناسبة بهدوء حذر كما عودنا النظام يوماً إثر آخر، صخب عالي الحس والحواس، شهدته ساحات المدن، وفي مقدمتها ساحة الحرية تعز، أشعل الشباب شعلتهم في شارع جمال وسط المدينة وجبل القرن في الراهدة، وقلعة القاهرة، وهم بذلك لم يفعلوا شيئاً جديداً أو يجيئوا بضوء غير ضوئهم، في الحقيقة كان هذا اليوم الذي انبثقت فيه هذه الساحة هو يوم الشعلة، كان ناضجاً بما يكفي لكل المستقبل، لكل اليمنيين. في أصقاع الأرض فاخر اليمني بهذا الفعل الأول هنا، صحيح أنه كان ليلة سقوط حسني مبارك في مصر، لكن لم يتأخر شباب هذه المدينة الثائرة طويلاً، أشرعت أفئدتهم كنجوم هدى، وفي الليل أسرجوا مصابيح القدر، وهو ما مكنهم من القدرة على مواصلة السير في طريق الألغام والرصاص، ليصير بلدهم ضمن المتقدمين في الصف الأول في مدرسة الربيع العربي. كثف هذا الليل وحشيته في حضرة العسكر ومطارداتهم طرائد الشباب الحر، امتلأ الخوف بهم وفاض، ومعه تدفقت معنويات التحدي، أكثر من مرة كانوا وجهاً لوجه مع الموت، مرة في مرمى كتائب عسكر النظام وأخرى تتلقفهم فرق البلطجية المتناوبة على القتل والإخفاء القسري. حادثة الشهيد الشاب مازن البذيجي بمثابة السهم الذي ثقب المنطاد، في 18 فبراير احتضن مازن قنبلة، نسفت جسده، ولم يستطع أحد فعل هذا سواه، كان شهيداً سجّل واحدة من منازلات الشباب مع الموت، كان ومضة الثورة لطابور طويل للشباب الرجال والنساء من الشهداء حباً بهذا الوطن ومن أجله، وله. لكأنهم يرددون: نموت بأجسادنا الترابية لنحيا في طقوسية الرمز الثوري والأسطورة الوطنية، ونتطاول في عوالم هذه الملحمة الثورية الفذة، كأننا بذلك نقدم أجسادنا قرابين لإلهنا الحر الوطن، معبودنا الضعيف المخطوف، وشاهدنا الوحيد ضد العدم وعدمية النظام، الذي منحنا فرصة الخلاص من هذه الساحة الخالدة في يوم سيخلد تأريخنا الناصع؛ لأننا حبة القمح التي ماتت لكي تخضر ثانية، وهو الخلود في حنجرة هذا الوطن وضميره المنفلت هذه المرة من مكائد الموت؛ لأننا ببساطه سنخلد في ضمائركم أنتم. [email protected]