لا شيء أغلى من الصحة وأجمل من العافية، ولا شيء أفضل من داء عُرف له دواء، ومن آلام عرفت مسكناتها، ومن جراح عُرف له ضماد، ومن مسئول عرف قدره ومسئوليته. إنه الواقع الصحي اليمني بقضه وقضيضه، أكل لحمه نظام سابق ولم يبقِ منه إلا الشحم والعظم، همّ نفسه وترك الآخرين يرزحون بين آفتي المرض والفقر. تظاهر ببناء المستشفيات والمستوصفات لكنها خاوية على عروشها، تظاهر بالاهتمام بالصحة والقضاء على الأمراض لكنها ظلت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، دنّس هذا الواقع وولغ فيه ولا يتم تطهيره إلا بسبع مرات إحداهن بالتراب. الحديث عن هذا الواقع حديث ذو شجون، ولكنه واسع وعظيم لا نستطيع حصره هنا، ويعلم الجميع هذا الواقع من حيث مآل المستشفيات الحكومية ومنتسبيها وخدماتها، ووسائل الصرف الصحي والنفايات والمخلفات، وما كتبه الكاتبون وحلّله المحللون وما صوره المصورون عن هذا الواقع الأليم علّهم يجدون آذاناً تسمع وقلوباً تفقه وأعيناً تدمع لكن لا حياة لمن تنادي، وإذا وجد اهتمام لا يتجاوز أصابع اليد. ومن باب الأمانة وقول الحق سنختصر مرادنا بالتحدث عن قضية إنسانية لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وينبغي معرفتها وخاصة في تعز، وبالأخص في إحدى مديرياتها المسماة ب«التعزية» التي أهملها المسئولون إهمالاً واضحاً يندى له الجبين، وتتألم لألمها الجوارح والوجدان ويبكي لحسرتها الإنسان والشجر والحجر والمياه والتربة، كيف لا؟ وهي كالأم الحنون، تنام محافظة تعز بين أحضانها، تهدهدها بأرجلها، وتبعث لها أريجها وعطرها، وتزيل أذاها إذا أخرجت، وتمسح دموعها إذا حزنت، وتضمها إلى صدرها إذا بكت، وتصبر إذا شمّت منها روائح كريهة.. كيف لا؟ وهذه المديرية ذات الكثافة السكانية العالية تحتضن قمامة تعز جميعها في مقلب حذران بمرارة وأنين وصبر! وتستر عورات هذه المحافظة مهما كلفها ذلك من ثمن. كيف لا؟ وهذه المديرية تحيط بها المصانع من جميع مداخلها، وتتحمل ما تلقيه هذه المصانع من أذى! كيف لا؟ وهذه المديرية تمر بين أراضيها جميع مجاري تعز! وعلى كل ذلك تموت موتاً بطيئاً بلا رحمة.. دعونا نقترب أكثر من كبد الحقيقة ونتجول بين بعض عزلها وقراها ونوجه هذه التساؤلات علّنا نجد لها جواباً يضمّد جراحها ويسكّن آلامها ويمسح دموعها الحارة التي مازالت تسكبها بغزارة.. ألم تروا صوراً موثقة وتقارير نشرت في «نبأ نيوز» بأن أبناء حارة الرواسي بالهشمة تعزية يشربون من مياه المجاري! وقيادة المحافظة لا تحرك ساكناً، ولم تنظر لحاجياتهم وفقرهم المدقع..!؟ ألم تعلموا بمعاناة أهالي بعض قرى حذران من شحة المياه وعدم وجود مياه الشرب والذين يضطرون لشرائها بأغلى الأثمان، إضافة إلى أنهم يستخدمون المياه الخارجة من تعز والمتسخة في سقي مزروعاتهم ومواشيهم وغسل الأواني والملابس بعد تلوث الآبار الجوفية وصعوبة الحصول على بعضها..؟ ألم تمروا بجانب قمامة حذران تعزية وتشمّوا روائحها النتنة؟ ألم تروا قوافل الماشية زرافات ووحدانا تسير إلى القمامة وترعى على المخلفات وتأكل كل ما يحلو لها دون رقيب أو مانع يردها؟ ويأتي هذا الإنسان ليشرب من ألبانها ويأكل من لحومها.. ألم تسمعوا بإصابة الكثير من أبناء هذه المديرية بالأمراض الفتاكة والمزمنة وخاصة أمراض الكبد والكلى وتكسرات الدم إضافة إلى البلهارسيا والتيفوئيد وغيرها؟ كما أنكم هل سمعتم بموت الكثير من أبناء هذه المديرية وخاصة في العام الماضي نتيجة الواقع الصحي الأليم؟ ألم تزوروا الأراضي المجاورة للمصانع وتنظروا كيف حلّ بها الدمار نتيجة تسرب المواد الكيميائية إليها؟ ألم تعلموا أن أغلب ملوثات العالم موجودة في هذه المديرية والتي تتوزع بين التلوث الهوائي الناتج من احتراق المخلفات وغازات المصانع، وبين تلوث المياه، وتلوث التربة وغيرها؟ ألم تتحسروا لهذه المديرية عندما تعيش في ظلام دامس نتيجة عدم توافر الكهرباء إلا في مناطق قليلة وأخرى تضاء فيها الكهرباء من قبل بعض المستثمرين من أبناء تلك المناطق لا تتجاوز الست الساعات في اليوم..؟ نعم.. كل ذلك موجود في مديرية قريبة من محافظة تعز، لا تملك إلا الصبر والأنين والآلام لعل الله يقيض لها مسئولين جدد يقدرون المسئوليات وينفضون عنها غبار الفاقة والحرمان، أياديهم منبسطة لفعل الخير للجميع دون محاباة أو مراءاة أو انتقاص، وخاصة الرئيس المنتخب عبدربه منصور هادي وحكومة الإنقاذ ومن يقف معهم في يمن الإيمان والحكمة، وذلك بإعادة النظر في الوضع الصحي والقائمين عليه والارتقاء بالخدمات الصحية واختيار الطرق المناسبة للحفاظ على الصحة والقضاء على كل ملوثات الحياة وخاصة في مديرية التعزية التي تؤذي الصحة وغيرها، مع العلم أن جراح الواقع الصحي يحتاج إلى ضماد قوي قبل أن يتوسع وينتشر ويتحول إلى سرطان خبيث يهلك الحرث والنسل. [email protected]