مناكفون لا أقل ولا أكثر.. بعيدون جداً عن حقلهم الاجتماعي، وإذا اقتربوا منه يعادونه لا أن يأخذوا بيده تنويرياً.. لذلك ليس فيهم أدنى موضوعية لتوحيد الجهود المتنافرة ورأب الصدع النفسي الكبير بينهم.. إقصائيون ويصرخون فقط دون أن يشمروا عن سواعدهم في الواقع والوعي المتخلفين جداً كما تقتضيه قيمة التحول المدني بالفعل. يعتقدون أن المدنية ستأتي فوراً وكأنها سحر بقرار جمهوري مثلاً.. ولذلك يريدونها الآن والآن فقط.. أما المدنية فهي لا تُنجز يا هؤلاء دون تراكم شاق من الدأب والتنوير.. حتى الإرادة الشعبية لوحدها لا تكفي لو ظلت مجرد إرادة حلمية فقط وليس إرادة مقترنة بقيمة الأداء والفعل داخل الواقع كما داخل الوعي نفسه - خطوة خطوة - وصولاً إلى صنع المسافة اللائقة بين دأبنا في هذا المسعى وبين كل ذلك التخلف المكدس. يعني ببساطة نحتاج إلى الإيمان بضرورة صنع وتفعيل الإرادة الثقافية والسياسية الجريئة والموحدة عوضاً عن كل تلك الأوهام والمناكفات والحماقات المشتتة دون أي مشروع يليق بكل الآمال والأمنيات وغاية وطن نموذجي للجميع. لكن أحدهم من المتغنين بالمدنية قال إنه سيكرهها؛ لأنه لا يمكن الحديث عن المدنية، بينما لا يمكن لرجل من العصيمات أو من حاشد...إلخ أن يستوعبها كمضمون. قلت له: يعني هي جت على صاحب العصيمات لوحده؟ ثم إن المشكلة ليس في المتخلفين فقط.. المشكلة في المتنورين أيضاً.. بخطابهم المترهل أو المتصدع أو المصاب بالنكوص. أضفت: كان عليك أن تقول إن حاشد وبكيل بمساهمتهما في الحكم طيلة ما مضى أعاقتا كثيراً عملية الخروج من التخلف، إذ سأوافقك حينها، لكني سأستدرك: التخلف في اليمن لا يستثني أحداً اليوم في الأطراف والمركز على السواء.. كذلك لنكن منصفين في تشخيصنا لأن القبيلة يا عزيزي ليست عائقاً للدولة بل الحقيقة أن الدولة لم تصل للقبيلة، كما لم تصل لعديد مناطق في البلاد.. أصلاً الدولة مفقودة والضائع في كل شيء يمنياً هو القانون.. اليمن بلد ريفية.. قبائل مسلحة وقبائل غير مسلحة.. صحيح أن السلاح ساهم في تقهقرنا الجمعي وأكثر ما نحتاجه الآن إعلان قانون منع السلاح.. لكن حتى المناطق الزراعية لا تجد دعماً من الدولة وأدوات إنتاجها متخلفة وقيمها تدور في هذا الفلك رغما عن إرادتها.. معظم الجهات متخلفة فكيف نسيت؟.. صنعاء نفسها بؤرة تخلف وهي العاصمة.. هل هذه مدينة بلا حديقة واحدة محترمة؟ هل هذا التوسع الأفقي والعمودي بدون حتى شبكة مجاري أمر معقول؟. أكثر الجهات مدنية فيها قدر كبير من التخلف يا عزيزي.. ذلك في الواقع، وعليك أن تقيس الأمر على الوعي تماماً يعني سلطان السامعي في تعز - كشيخ اشتراكي - استوعب المدنية التي تعتقدها كما ينبغي، أو حتى حمود المخلافي - كشيخ إصلاحي - تتهمونه بإفساد الثورة؛ نظراً لأن مسلحيه قاوموا غشم النظام على الثوار السلميين؟! المقصد أنه التخلف مشكلتنا الكبرى، وهو يوحدنا كثيمة يمنية بامتياز.. بالتالي يسري الأمر على حاشد كما في بكيل ومذحج.. شمالاً وجنوباً لاشك ولا ارتقاء دون القانون.. فمثلما في مأرب ورداع والبيضاء وأبين سنجد ذات القيم المرتدة عن العصر في الضالع وصعدة والجوف وشبوة وحجة... إلخ.. حتى تهامة المكلومة بمشائخها “الأضرط” ونمطها الإنتاجي البسيط. يا عزيزي.. وبما أننا قريبون سندخل إلى ريمة ونمر بعتمة وآنس هبوطاً إلى يريم أيضاً.. على أنني أستغرب كيف ننسى مثلاً أن جعاشن محمد أحمد منصور في إب مش في عمران؟ أقصد لماذا نكذب على أنفسنا ونحصر الخلل في أشخاص أو أماكن معينة، بينما المسألة جمعية على السواء، وإن اختلفت المقادير؟. تلك هي المسألة باختصار: غلبة الماضي على ضرورات العصر.. حالة من التلذذ في الاستمرار داخل الغيبوبة الجمعية الرهيبة.. تغييب المستقبل بوأد أحلام الحاضر ما أنتج مثقفينا الادعائيين الذين تعرفهم، ولعل تخلف المثقفين هو الأنكى على الإطلاق.. ضريبة حكم حقير جعلنا جميعاً نجد أنفسنا بلا أي تراكم حقيقي. كلنا كلنا، صار فينا شيء من الهمجية بشكل أو بآخر يا عزيزي، ولا تتأسس الهمجية إلا بالمكابرة للأسف، أما تفعيل القانون فيجب أن يكون على رأس غايات اليمنيين اليوم، وبالتأكيد لا للاستقواءات القبلية بعد الآن، كما لا ننسى المسألة الدينية وأهميتها كمؤثر هام في طريق التطور؛ إذ تحتاج إلى النضج تأسيساً لأرضية مثلى للشراكة الوطنية ولخطاب وطني جامع دون أية تعبيرات جهوية أو طائفية، ما يعني أن على كل مذهب عدم الاستقواء على الآخر أيضاً، بل إننا جميعاً متساوون أمام القانون، كنا متدينين أم لم نكن، كنا من حاشد أو من تنكا بلاد النامس.