لم يكن موقف دول الخليج العربي موحداً من قضية داخلية يمنية كما كان موحداً خلال الثورة الشعبية السلمية التي انطلقت العام الماضي من خلال الإجماع على ضرورة تنحي الرئيس علي عبدالله صالح عن السلطة منذ الشهر الثالث للثورة، وكأنها كانت تبحث عن هذه الفرصة من قبل لكنها لم تكن تجدها ولم تكن تجد – في الوقت ذاته – مبرراً للتدخل في الشئون الداخلية اليمنية وتطلب من الرجل الرحيل عن السلطة، حتى كانت الثورة الشعبية وكانت الفرصة التي لا تعوض... وكما كنا أشرنا في نهاية مقال الأسبوع الماضي أن قضية الطالب النيجيري عمر الفاروق في نهاية عام 2009م دفعت المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي للمضي بلا عودة على طريق التدخل الفوري والإشراف المباشر لإصلاح النظام في اليمن، فإن تجاوب النظام وفي مقدمته الرئيس صالح كان بها ما لم فإن خياراتهم كانت ستكون مفتوحة بما فيها العمل على إنهاء حكمه بوسائل الضغط المختلفة طالما ظل متسبباً في إعاقة عملية الإصلاح السياسي والأمني والاقتصادي، حتى ولو كان البديل نجله إذا لم يكن هناك خيارات أخرى، إلا أن ثورات الربيع العربي فتحت الطريق لهذا التغيير في اليمن بعد أن خرج الشباب بالملايين في مختلف ساحات الجمهورية وبالذات بعد أن تورط النظام في إراقة الدماء، حيث وصل ذروته في جمعة الكرامة 18 مارس 2011م وما جرى بعدها من تداعيات نتج عنها تفكك النظام وكان لابد من التدخل الإقليمي والدولي السريع للحيلولة دون انهيار اليمن ودخوله في حرب أهلية. المملكة العربية السعودية الجار الأكبر والأهم لليمن والبلد صاحب التأثير دائماً في السياسات اليمنية سواء بالتدخل المباشر كما كان يحدث أحياناً أو بالتأثير عن بعد كما كان يحدث أحياناً أخرى كانت هي الأخرى مع التغيير في اليمن وكانت عاملاً أساسياً في سرعة إنجازه سلمياً... وقد كان اليمن هماً دائماً بالنسبة للحكم السعودي الذي لا يريده أقوى من اللازم تماماً كما لا يريده أضعف من اللازم، وما بين الحالين يرى الحكم السعودي أنه لابد أن يكون في اليمن دولة متماسكة آمنة مستقرة تفرض هيبة النظام وسطوة القانون على كل الأرض اليمنية دون أن تشكل خطراً من أي نوع على النظام في المملكة وهذا الخطر لن يحدث إلا في حالة أن يصبح الحكم في اليمن أقوى من اللازم وله طموحات توسعية كما حدث مع العراق قبل أزمة احتلال الكويت... إذن نحن أمام معادلة معقدة جداً تحكم العلاقات اليمنية السعودية ومن ورائها العلاقات اليمنية - الخليجية، لكنها معادلة يمكن فهمها والتعامل معها بشكل موضوعي في حال توفرت الإرادات التي تنظر للخصوصيات والمصالح المشتركة ووقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا، فالبلدان الجاران لا غنى لأحدهما عن الآخر ولا توجد أية مصلحة للسعودية مطلقاً في وجود نظام ضعيف على حدودها الجنوبية فضعفه سيرتد عليها وبالاً وهذا ما يجعلنا نفهم قرار المملكة – وهي الدولة الأكبر والأكثر تأثيراً في منظومة مجلس التعاون الخليجي – بضرورة دعم التغيير في اليمن وتغيير النظام الذي فشل طوال السنوات العشر الأخيرة في فرض هيبة القانون خاصة في مواجهته مع القاعدة التي حولها إلى وسيلة لاستجلاب تعاطف واهتمام الغرب، وفشل في معركته مع الحركة الحوثية المعروفة بعدائها العقائدي التقليدي مع المملكة بل ومع الخليج بأكمله وحاول – أي النظام السابق – أن يجعل من هذه المعركة وسيلة لابتزاز المملكة وبقية دول الخليج لجلب الدعم المالي والأسلحة على امتداد ست سنوات وصل الأمر خلالها إلى حد دفع الرياض للمشاركة المباشرة في الحرب الأخيرة مع الحوثيين التي استمرت منذ النصف الثاني من عام 2009م حتى شهر فبراير 2010م على غير عادة الحكم في المملكة الذي يحرص دوماً على تجنب مثل هذه التدخلات العسكرية المباشرة في أي ظرف وفي أي مكان. في ظني أن القلق السعودي بلغ ذروته من احتمالات انهيار النظام في اليمن ووصوله مرحلة الفشل الكامل، لذلك سارعت الحكومة السعودية بدعم انعقاد مؤتمر (أصدقاء اليمن) في يناير 2010م في العاصمة البريطانية لندن على مستوى وزراء خارجية دول مجلس التعاون والدول الخمس دائمة العضوية وأهم الدول المانحة لليمن، وكان حديث وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في ذلك المؤتمر – الذي أتيحت لي فرصة حضوره وسماع أحاديث وزراء الخارجية بشكل مباشر – في غاية من الحماس لإعطاء نظام صالح فرصة جديدة من خلال تقديم دعم مالي سخي ومشروط بإحداث العديد من الإصلاحات الجادة التي لم تكن تروق لصالح سواء ما يتعلق منها بالإصلاحات السياسية أو بآليات جادة لمحاربة الفساد أو بالجدية في حسم المعركة مع القاعدة وإغلاق ملف الحرب مع الحوثيين، إضافة للعديد من الإصلاحات الاقتصادية، وكانت هناك بعض الإصلاحات العاجلة المطلوبة في فترة زمنية محددة لم يقم بها النظام اليمني بحسب الجدول الزمني الخاص بها وكان ذلك يستدعي تأجيل الجولة الثانية من مؤتمر أصدقاء اليمن مرة بعد أخرى بسبب عدم الوفاء بالالتزامات، وهي الجولة التي كان سيتم خلالها إنشاء صندوق دعم التنمية... وهكذا ظل نظام صالح يماطل في تنفيذ بعضها ويؤجل بعضها وينفذ بعضها بشكل لا يفي بالمطلوب وهذا كله كان يسحب من رصيد الثقة المتبقي تجاهه ويضع اليمن على شفا الانهيار. حسمت الحكومة السعودية أمرها تجاه نظام صالح بعدما أدركت أن ما يجري في اليمن ثورة شعبية كبيرة تمتد من أقصاه إلى أقصاه، وقررت رفع الغطاء عنه والانحياز إلى خيار الشعب اليمني في التغيير... فالمصلحة السعودية – في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين – تقتضي طي صفحة هذا النظام ودعم خيارات الشعب اليمني في التغيير والانفتاح على قواه السياسية الجديدة والمؤثرة والتعامل معها كأمر واقع والإسهام من خلال ذلك كله في إنجاز تغيير مدروس يحفظ ما تبقى من كيان الدولة ولا يقود اليمن إلى الفوضى ويجنبه الصراع المسلح وهي تقريباً نفس الرؤية الأمريكية التي سنتناولها في وقت لاحق... وهكذا التقطت الرياض وواشنطن مشروع الاتفاق الذي عقده صالح مع خصمه اللواء علي محسن في مارس من العام الماضي لتتبلور على أساسه المبادرة الخليجية التي طوت صفحة ذلك النظام إلى الأبد.