هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها موسكو منذ غادرتها في أواخر مايو 1995 بعد أن أنهيت دراستي، في العاصمة الاوكرانية كييف . لم تربطني بموسكو أي علاقة من تلك العلاقات التي تربط البشر بالأماكن التي يعيشون فيها ، فقد كانت علاقتي بهذه المدينة الرائعة علاقات «ترانزيت» ليس الا ، ذلك أنني وصلتها أواخر الثمانينيات من القرن الماضي ضمن دفعة طلاب مبتعثين للدراسة في الاتحاد السوفيتي. يومها أقمت فيها أياماً معدودة بانتظار التوزيع على الجامعة والمدينة التي سأخوض فيها غمار دراستي الجامعية ، وشاءت الأقدار أن تكون كييف وجامعتها العريقة هي الوجهة التي اختيرت لي فغادرت موسكو حينها ولم أعد لها إلا بعد ستة أشهر تقريباً لاستلام مستحقاتي المالية من السفارة . وتكررت زياراتي لموسكو في تلك السنوات إما للسفر إلى اليمن أثناء الاجازات أو لاستلام الرواتب من السفارة ، ولم يحدث أن زرت موسكو زيارة خاصة مطلقاً الا هذه المرة . في هذا الأسبوع زرت موسكو ،دون أن يختلف الأمر عن زياراتي السابقة فقد كانت موسكو محطة ترانزيت توقفت فيها لست ساعات قبل أن أكمل رحلتي الى «قازان» عاصمة جمهوريات تتارستان أحد أهم وأغنى الجمهوريات المشكلة للاتحاد الروسي ، لكنني في طريق العودة إلى دبي قررت أن ادخل موسكو زائراً متعنياً. أردت أن أزور موسكو بحد ذاتها وتأخرت عن موعد عودتي بيومين خصصتهما لزيارة معالم موسكو التاريخية ، كما لمعالمها السياسية والاقتصادية والسياحية التي مررت بها كثيراً دون أن تكون تعني لي شيئاً. اعترف الآن أنني كنت مقصراً في حق نفسي وفي حق هذه المدينة التاريخية ، وأعترف أنني اكتشفت موسكو خلال اليومين الماضيين فقط ، وأن موسكو خلال زياراتي السابقة كانت مجرد محطة عبور ، أما الآن فقد اصبح للمدينة معنى آخر في حياتي. في زيارتي الاولى لموسكو وحتى مغادرتي لها شهدت هذه العاصمة العالمية نهاية مريرة لصراع طويل مرير بين الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدةالامريكية، كما شهدت ميلاد روسيا الجديدة و14 جمهورية محيطة كانت تشكل ذلك الاتحاد . بدت موسكو وأنا اغادرها في 1995 كأسد جريح خسر الحرب لكنه لم يخسر كرامته وكبرياءه رغم الفقر الذي الم بسكانيها ورغم اليأس والاحباط الذي تملكهم نتيجة للهزيمة أمام العدو اللدود ، خصوصاً وأن الفشل كان هو الصفة الرئيسية لكل من حاول غزو موسكو أو السيطرة عليها عبر التاريخ .. فكيف تهزم موسكو دون حرب أمام واشنطن؟ اعتقد أنه أمر لا يمكن تحمله.. يسكن موسكو الآن أكثر من 22 مليون شخص ، ويدخلها ويغادرها اكثر من 8 ملايين شخص يومياً ، و هي عاصمة لدولة يسكنها أكثر من 142 مليون نسمة 81 بالمائة منهم روس والبقية أجناس وأعراق مختلفة. كانت السياسة وطلب العلم السبب الرئيسي لأغلبية زوار موسكو السوفيتية ، وأصبحت التجارة والاعمال هي السبب الرئيسي لزيارتها هذه الايام ، رغم أنها ما تزال أيضاً وجهة لطلب العلم والسياسة ولكن بشكل مختلف .. سنتحدث عنه في مقال آخر بإذن الله . عندما غادرت موسكو كانت تخوض صراعاً مزدوجاً على المستويين الداخلي والخارجي، فقد كانت تصارع لإعادة هيكلة اقتصادها الموجه الذي انهكته عقود الاشتراكية ال7 ،بحيث ينخرط اكثر في الاقتصاد العالمي ويتكامل معه بما يؤهلها للخروج من أزمتها الاقتصادية الخانقة ،كما كانت تصارع للحفاظ على جزء من الهيبة والمكانة الدولية التي كانت تتمتع بهما أيام الاتحاد السوفيتي ، بما يمكنها من الوقوف في وجه الغول الامريكي الذي كان يزحف عليها بشكل مخيف وفي مختلف الاتجاهات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.. واليوم تكاد موسكو الحاضر لا تختلف عن موسكو الماضي ، فهي تخوض نفس الصراع الداخلي والخارجي ومع نفس العدو أيضاً وربما لنفس الاسباب. تصارع موسكو اليوم لإنضاج تجربتها الديموقراطية الوليدة، وللمضي قدماً باقتصادها الذي أصبح اقتصاداً حراً غير موجه، فقد شكلت عودة «بوتين» إلى رئاسة البلاد بعد الانتخابات الاخيرة مادة خصبة ومحفزاً للنقاش والجدل السياسي الداخلي ، بين مؤيد – الأكثرية - يرى أن «بوتين» هو رجل روسيا وقيصرها الجديد الذي لا يمكنها أن تعيش بدونه ، ومعارض – الأقلية – لا يرى في الرجل أي ميزة أو قيمة تؤهله للعودة الى سدة الحكم ، وإن كان الجميع يقر ويعترف بفضل هذا الرجل على روسيا لكن الخلاف الحاصل يدور حول امكانيات الرجل لإدارة المرحلة المقبلة وما اذا كان ما يزال لديه جديد يمكن أن يقدمه بعد كل ما قدم خلال العقود الماضية. وتتصارع موسكو على المستوى الدولي للأسف الشديد مع نفس الجبهة القديمة الولاياتالمتحدةالامريكية ، التي كادت أن تحكم الخناق على موسكو عبر تقطيع اواصر علاقاتها الاستراتيجية مع الدول التي تشكل محيط روسيا الجيوسياسي في أوروبا وآسيا وفي العالم العربي ، ويبدو لي أن صراعاً قادماً بين العملاقين بدأ في البروز بشكل صارخ وأنه هذه المرة سيكون قاسياً ومؤلماً ومن غير المتوقع لمن ستكون الغلبة فيه. موسكو الآن تصارع للحفاظ على ما تبقى لها من مكانة في العالم العربي لكنها في تقديري لا تدير الصراع بالحكمة المطلوبة ، كما بدأت تستعد لصراع آخر مع الولاياتالمتحدة التي تعمل الآن على محاصرة روسيا عبر المحيط الهادئ وآسيا ، في مسعى منها لتلافي الخطر الذي سيتسبب به سحبها لقواتها من العراق وافغانستان، وهو ما يعني عند انتهائه، خروجها عملياً من فضاء روسيا كانت قد أحكمت القبضة عليه ، والظاهر أن الروس أدركوا الامر وبدأوا يستعدون جيداً للمواجهة . ويبقى السئوال .. هل ستجيد موسكو هذه المرة خوض الصراع الجديد مع الولاياتالمتحدة، أم أنها ستتورط في لعبة كبيرة كلعبة حرب النجوم التي نعلم جميعاً كما تعلم موسكو جيداً نتائجها الكارثية.