بالأمس تحدثنا عن الفرق في الرؤية الوجودية بين الفنانين الأوربيين الشهيرين «سيزان» الفرنسي و«مونش» النرويجي، وحتى نتبيّن أكثر تلك الفروق بينهما لا بد من الإشارة إلى أن سيزان الذي عاش في خواتم القرن التاسع عشر بباريس يعتبر المؤسس الأول للتيار الانطباعي في الفن التشكيلي، ذلك التيار الذي نشأ عطفاً على الاكتشافات العلمية التي ترافقت مع الثورة البرجوازية، وتوازت مع تغوُّل مؤكد للفكر المادي الرياضي الجبري الذي انبثق من فلسفة الأنوار السابقة على ذلك العهد من خلال نقد الميتافيزكا الدينية، مقابل الانتصار للعقل المجرد .. سيزان كان “يرسم ما يرى لا ما يعرف” اعتقاداً منه بأن الألوان في حالة تحوّل دائم، وأن الانطباع البصري الحقيقي يقترن دوماً بالتحولات لا الثوابت، وأن الرؤية البصرية للمألوف والمعروف رؤية مُخاتلة، لأنها تُجيّر اللون على ما عُرف من ألوان الأشكال بالضرورة. بالمقابل كان «ادوارد مونش» النرويجي مفارقاً لتلك الرؤية، من حيث اعتماده الكبير على ما يُمكن أن يُسمّى الرؤية السيكولوجية للظواهر. والغريب أن مونش الذي توفّي في ذروة الحرب العالمية الثانية كان قد نفذ منحوتته الخشبية الملونة بعنوان «الصرخة» قبل ذلك بكثير، وعبّر في تلك المنحوتة عن احتجاج مبكر لمآلات الإنسان المعذب، فيما تواتر مع لغة سريالية مبكرة كانت بمثابة علامة فارقة في المدرسة الفنية الحديثة التي كانت الانطباعية فيها الأساس المكين . يقول مونش إنه «يرسم ما لا يرى لا ما يرى»، وبهذا المعنى أعاد الاعتبار للميتافيزيكا المُجيّرة على عوالم النفس البشرية وتقلباتها الكامنة في تضاعيف الأنين والألم، وكان فناناً سيكولوجيا بامتياز، وربما نجد التفسير الأقصى لنزعته النفسية في دأبه على تكرار أعماله، كما لو أنه يريد التطهُّر من أدران الواقع ورزاياه. في الموقفين السابقين إشارة مؤكدة لمعنى العلاقة بين الوجود والعدم، فإذا كان سيزان وجودياً يؤمن بالتحول، فإن وجودية مونش تؤمن بالماوراء، ولو على قياس السيكولوجيا البشرية. [email protected]