ما حدث يوم الجمعة الماضية في جامع القبة الخضراء في أمانة العاصمة لم يكن متوقعاً ولم يخطر ببال أحد أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه. كان المشهد أكثر من مؤلم ومأساوي، وكنت شاهداً على ما حدث في وقت مقدس من يوم مقدس عند المسلمين، عندما تحول المسجد إلى ساحة صراع واشتباكات جرى الاستعداد لها، وعُقدت النوايا المسبقة لتكون الجمعة ووقت الصلاة تحديداً مرحلة حسم لخلاف بين طرفين للسيطرة على منبر المسجد ومحرابه. تحدثنا من قبل عن ذلك الخلاف وحذرنا من إمكانية تحوله إلى ماهو أشد، وإمكانية أن يكون بذور صراع مذهبي وسياسي سيجري في أروقة بيوت الله. ذَهبتْ كل الحلول المقترحة لحل المشكلة بين المتنازعين على منبر الجمعة ومحراب الصلاة بما في ذلك الانتخابات التي قيل إنها ستضع حداً للصراع، ليتفاجأ الناس الذين حضروا لأداء صلاة الجمعة بما حدث. دخلت الجامع قبل الأذان بنصف ساعة تقريباً فوجدته مزدحماً على غير العادة في مثل ذلك الوقت من جُمع مضت فتوقعت بناءً على معرفتي بوجود خلاف بين الطرفين أن شيئاً ما سيحدث، ولكن ليس في وقت الخطبة أو الصلاة. مرّت الدقائق وجاء وقت الأذان ليصعد خطيب، وقبل أن يُلقي السلام انتفض مجموعة من الحاضرين طالبين منه عدم الصعود، وإذا بالطرف الآخر ينتفض أكثر طالبين من الخطيب الصعود ثم اشتبك الطرفان وتحول المسجد إلى شيء آخر يدمي قلوب المسلمين. صعد الخطيب وأذّن المؤذن والفوضى تعم المكان.. لا أحد يسمع المؤذن ثم لا أحد يسمع الخطيب المفروض بالقوة. كأن المؤذن يؤذن في مالطا كما يقول المثل، ومثله فعل الخطيب والاشتباكات بالأيدي والأرجل والصياح يغلب صوت الخطيب بمكبرات الصوت. هرب الكثير من الناس خوفاً من الصراع المسلح أو خوفاً من وصول الأمر إلى الصراع المسلح، ووقفت أراقب المشهد المُحزن والمُبكي وفجأة خطر على بالي سؤال: ماذا لو حضر هذه الجمعة وفي هذا المسجد وفي هذا الوقت بالذات رجل يريد أن يعرف شيئاً عن الإسلام ليُسلم؟ ماذا سيكون قراره بعد هذا الذي أشاهده الآن؟ كانت قوات الحماية الأمنية التي حلّت بدل قوات الفرقة الأولى مدرع حاضرة عند الأبواب من البداية لتفتش الداخلين إلى المسجد حتى المساجد تحتاج لقوات أمنية تفتش المصلين حتى لا يدخل سلاح إلى المسجد. تدخلت تلك القوات لفض الاشتباك ثم أطلق الجنود الأعيرة النارية في الهواء لتفريق “المتضاربين” والمصلين واستطاعت السيطرة على الموقف في خاتمة المطاف، وأقيمت الصلاة من غير خطبة ليصلي الناس الذين هربوا من الجامع والذين لم يدخلوا إليه من الشارع المجاور. ومن حسن الحظ أن هذه الاشتباكات حدثت في ظل وجود قوات الحماية الأمنية التابعة للجنة العسكرية والأمنية، ولو حدثت في غيابها أو في وجود قوات الفرقة الأولى مدرع من سابق ذات الانتماء الإصلاحي لشهد المسجد مذبحة أكبر من مذبحة الحرم الإبراهيمي ولأخذت الأمور اتجاهاً مرعباً وغرق الجامع بالدماء. لاحظ المصلون وصول قوات الفرقة نهاية الموقف ففهم البعض أنها جاءت لدعم أحد الأطراف في الصراع على حساب الطرف الآخر الذي يتهمونه بالتشيع والحوثية.. والاتهامات هذه الأخيرة أطلقها عناصر الإصلاح في الحي، وكل طرف يتهم الآخر بما يشاء. أعتقد أن مسألة الاستقواء بالعسكر الحزبيين في صراع من هذا النوع سوف يضيف تعقيدات للمشكلة وسيفتح أبواباً لمشكلات مشابهة في أماكن أخرى ومساجد أخرى، وأعتقد أيضاً أن موازين الغلبة العددية والقوة العسكرية لن تكون متاحة في أماكن أخرى، وهو ما يعني المزيد من صراعات مماثلة، وفتح باب لصراعات مذهبية وحزبية في المساجد، وهو ما لا يريده أحد لكي تبقى المساجد لله، ولا يجري تقسيمها حسب مناطق النفوذ لهذا الطرف أو ذاك. يبدو أن هذه المسألة غابت عن حسابات البعض، وبالتالي جرى التعاطي باعتبار هذا المسجد هو الجمهورية كاملة، وهو حساب خاطئ. ما حدث في جامع القبة الخضراء وربما في مساجد أخرى لا يمكن تصنيفه تحت مسمى “ثورات المساجد”، فالحال هنا يختلف والقضية بالغة الخطورة والحساسية ولعلها تؤسس لصراع لم يكن متوقعاً، لكنه فتح باباً لكل الاحتمالات والبداية تأتي من قصور في الوعي والسياسة دون حساب للعواقب.. لست مع هذا الطرف أو ذاك ولا ينبغي أن تكون المساجد حكراً لهذا الطرف أو ذاك، ولا أن تتحول إلى ساحات صراع مذهبي أو حزبي أو شخصي، لكنني أؤكد أن ما حدث وما سبقه يفتقر للحكمة ويضر برسالة الجامع وربما يكون سبباً لأشياء تأتي من باب ردود الفعل. وأختم هنا بسؤال في غاية الأهمية: لماذا الآن اشتعل الخلاف على المنابر؟ ثم إن هذا الجامع كان الخطباء يتناوبون فيه على خطبة الجمعة وكان منبره مفتوحاً للكثير من الخطباء، فما الذي حدث الآن ليبدأ صراع المساجد..؟ مجرد سؤال فاحذروا الفتنة.