لاشك ولا ريب أن إتقان الأسباب الموصلة إلى النصر خير وسيلة للبلوغ إلى الأهداف الكبيرة وحُسن اختيارها، لأن الكثير من الأهداف تحاصر وتموت من سوء التخطيط، وعقم الوسائل والأدوات المستخدمة، وعدم استغلال الوقت فيما يعود بالنفع والفائدة، واختيار الهدم بدل الإعمار. ولايخفى على أحد أن الأسباب الموصلة إلى النصر كثيرة، ولا نستطيع حصرها في هذا المقام، لكن نحن بحاجة إلى بوصلة تنقذنا من الضلال والضياع في مراحل كثيرة من الطريق، لعل هذه البوصلة تتركب من قيم فاضلة، وهذه القيم بحاجة إلى ثورة جديدة تنقب عن حلول لمشاكل نفسية وقضايا واقعية فرضها هذا الواقع الأليم. إن هذه المشاكل والأمراض تنبع من البقاع الطاهرة التي تقام فيها الصلوات سواء في المساجد أو الساحات والميادين العامة، استصغرها بعض الناس، وظنوا أنها بسيطة، وصرفوا الأنظار عنها واشتغلوا بقضايا أخرى، ولم يعلموا أنها تنخر في الجسد كما تنخر الدود الجسد الميت. هذه الأمراض تتمثل في: أكل لحوم الناس بالباطل، وضياع الأوقات دون فائدة، وتأخير الصلوات عن أوقاتها، ووجود مساجد خاوية على عروشها إلا من بعض المصلين وخاصة في صلاة الفجر، وكثرة القيل والقال، وعدم قراءة القرآن، واستغلال الأوقات باللهو واللعب بدلاً من الذكر والتأمل، ورفع الأصوات في المساجد أو الأماكن العامة، ناهيك عن عدم المحافظة على البقاع الطاهرة، من حيث عدم النظافة واختيار العشوائية سيدة المواقف. إن هذه المشاكل والأمراض وغيرها بحاجة إلى ثورة قيم تؤكد أن البقاع الطاهرة أحب البقاع إلى الله وخاصة المساجد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسلم: «أحب البقاع إلى الله مساجدها وأبغضها إليه أسواقها».. فهل تحتاج هذه البقاع إلى هدم أم إلى عمارة؟ إن أفضل جواب يفقهه المسلم الحق ويشفي غليل السائل هو أن البقاع الطاهرة بحاجة إلى عمارة، لكن من الذين يعمرونها؟ وكيف تكون عمارتها؟ وللإجابة على ذلكما السؤالين نجد أن المساجد في القرآن الكريم تتصدر الإجابة بقوله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشَ إلا الله..}. من الآية 18 التوبة. وعلى ذلك نستنتج أن عمارة المساجد لا يتصف بها إلا من كان مؤمناً بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشَ إلا الله، ويتفق جل المفسرين على أن عمارة المساجد تكون حسية ومعنوية، وما يهمنا هنا المعنوية بحيث يكون قوامها عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح المؤسس بالإخلاص والتوحيد والعقيدة الصحيحة، وعمودها عمارة المساجد بالصلوات من حيث الاجتماع للصلوات الخمس والجمعة والعيدين، وسقفها الذكر والدعاء وحفظ القرآن وتلاوته، وأرضيتها عمارة المساجد بالعلم والتعلم فيها وصيانتها مما لم تبن المساجد لأجله كحديث الناس والغيبة والنميمة والرفث والفسوق ورفع الأصوات، والمحافظة على نظافتها، ومساعدة العاملين فيها، وتوفير السبل الكفيلة التي تجعل المصلين كالأسماك في البحار هدوءاً وراحة وطمأنينة. وجلنا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء عند النجاري، أول عمل بدأ به وشرع في بنائه هو وصحابته رضوان الله عليهم هو بناء المسجد؛ من أجل إرساء وتأسيس تلك القيم الفاضلة قبل الشروع في أي عمل، وقبل البحث عن النصر، فإذا تأسست تلك القيم لاشك بأن النصر سيكون هو النتيجة المرجوة، ولنا عظة أيضاً في سيرة العظماء، وكيف كانوا يتحرون وسائل النصر، فها هو صلاح الدين الأيوبي عندما ذهب إلى صلاة الفجر في المسجد الأموي، بعد أن أقيمت الصلاة، لكن لم يكتمل الصف الأول، وبعد سبع سنوات ذهب إلى المسجد نفسه بعد أن أقيمت الصلاة، فلم يجد مكاناً، وصلى في الساحة الخارجية عندها توكل على الله وشنّ الحرب على الصليبيين وكان النصر حليفه.. وغير ذلك من الأمثلة. إذا كانت ثورة القيم بحاجة إلى عمارة المساجد فإنها بحاجة أيضاً إلى عمارة الساحات والميادين بمثل ما يرشد إليه الإسلام في عمارة المساجد، من أجل أن تظهر بأبهى حلة وتكون كالحدائق الزاهية بالذكر والصلاة والعبادة والنظافة، وتجذب الناس إليها بدلاً من أن يفروا منها. إن ثورة القيم لا تريد منا أن نستسلم للقدر بل نواجه القدر بالطاعة والعبادة والعمل الجاد والمثمر وتعبيد الطريق للسالكين، وما أجمل قول ابن القيم: «ليس المسلم الذي يستسلم للقدر، وإنما المسلم الحق هو الذي يغالب القدر بقدر أحب إلى الله». إن ثورة القيم تؤكد أن العاقل هو الذي يختار الوسائل الفاضلة التي تعينه على عمارة المساجد والساحات والميادين العامة لتكون له ذخراً في الدنيا ونجاة في الآخرة، والأحمق من أضاع وقته دون فائدة وترك الأمور تجري في أعنتها دون وازع ديني أو أخلاقي يهديه إلى الصواب ويردعه عن فعل السوء. إن ثورة القيم بحاجة إلى عمارة البقاع الطاهرة عمارة نفسية دينية أخلاقية مؤمنة قائمة على قوله تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السموات والأرض..} 21 الحديد. [email protected]