الكلمة موقف يبرز في لحظات الإباء والغضب.. وفي مواسم الجفاف والصمت, تخرج كالمارد لتشق جدار الغموض وتعيد الصوت والشفافية إلى حنايا واقعنا وثنايا نفوسنا..! وما يثير العجب أحياناً.. أن تطل علينا بعض الصحف محلية أو عربية “باستفتاء” مثلاً عن أفضل قلم صحفي وأفضل كاتب عمود، وأفضل تحقيق صحفي، إلى آخره.. !. وبينما نعتقد أن مثل هذا التقليد يمثل بعداً ارتقائياً وديناميكياً لمزيد من العطاء والإبداع، نجد بالمقابل أن مساحة الحرية في بلدنا أضيق من “خرم الإبرة”، وأن مقص الرقيب أكثر حدة وشراهة من “ساطور” الجزار..! أقولها بصراحة، وإن كان يؤلمني “زعل” بعض الزملاء ممن تفوقوا أو قد يتفوقون في أي استفتاء: إن نجاحهم يحسب “لمقص الرقيب”، فلولا التشذيب والتهذيب ما كان أحدهم قد تبوأ الطليعة..! صحيح أن الكاتب الصحفي يسره أن تكون أفكاره وآراؤه ملكه مائة بالمائة، لا تشوبها شبهة التعديل والتحريف أو التلوين والتوجيه، لكننا في هذا الزمن الرديء مانزال نبحث عمن يحترم آراءنا وأفكارنا.. ويسمو بعقولنا، فيما يشبه حلم فراشة تبحث عن بستان في صحراء جرداء، لتنتقل من زهرة إلى زهرة.. ومن فكرة إلى فكرة..! لعل تعسف العقل هو من أقبح أنواع الظلم، غير أن الأقبح منه أن تعرض فكرة أو تطرح رأياً، مهما بلغ من الصواب والمنفعة ويتم إما تعسُّفه، وإما الإعراض عنه تكبراً وتغطرساً..! هل تخلّى الأحنف عن عظمته التي تجسدت في تعرفه على محاسن الأمور وسفاسفها؟!! إن حياة الصحافة والصحفي أكثر إثارة للرعب من القصص التي يتخيلها أكبر روائيي الإجرام أمثال جان بوشان وأريك ميلرر، والفارق خيال روائي يتسع لاستعراض البطولات بنفس مطمئنة.. وواقع معاش لشجعان طمأنينتهم إيمانهم بالقدر والمبدأ، ولو كان الثمن “حزّ الرأس عن الجسد”. في الميدان الصحفي حرب بلا سلاح تقليدي.. وأشرف ما في حرب الأسلحة هو المواجهة الشريفة بفوهات البنادق، وأحقر ما في صراع العقول هو استخدام الأدوات الوضيعة لتصفية الخصوم..! بهكذا أعتقد أنني - إلى حد ما - أوضحت مفهوماً كان ولايزال ملتبساً في وعي “الملايين” من البسطاء عن فلسفة الصحافة و”حكمة” الصحفيين - على الأقل - حتى نفهم شيئاً عن معركة الدهاء في هذا الميدان المتعدد المجاهل، كما نراها من زاوية بعيدة عن أية مؤثرات سياسية، لكنها ولا مفر تحت مؤثرات وطنية، مثلما هو حال المرء في تكوينه الوطني وجدانياً وفكرياً, قناعة, وكلمة، مهما كانت خطورة المواجهة مع مكائد الحاقدين ولمزات النهازين ومؤامرات المتنفذين..!