إن للعنف بدايات ومراحل ، وحواضن وجماهير ، ومناهج ومنابر ووسائل ، ومؤسسات وغرف مغلقة ، تشكل أبعاده وتبلور مقاصده، تشيع ثقافته وتصطنع أعداءه ومعاركه، تُخلَِقُ عُقد وحُزم ومتواليات من الأحقاد والكراهيات ضد الأفكار والآراء ، والأشخاص والمناطق، والطوائف والمذاهب، والثقافات والمجتمعات ، والدول والحضارات ، تُختزل كلها في تربية وتعبئة شباب يتحمس بجنون ، يغالي في الأخذ وتقمص الشخصيات والأدوار والشكليات ، يتشدد في الطرح، يتطرف في الرأي، ويميل إلى العنف في القول والفعل ، يجيد تكفير وتفسيق المختلف معه . لذلك فإن الدارس للعنف في أي مجتمع يبدأ بدراسة الخطاب التعبوي ومن ثم المنهج التربوي الذي يقف خلف مكوناته ودوافعه ومشاريعه ونسبة الإقبال عليه، وطرق وأساليب استقطابه، والفئات المستهدفة من قبله ، ففي هذين المسلكين تكمن المدخلات المسؤولة عن تخليق ثقافة العنف ، وغرس بذور التشدد والغلو والتطرف في الفكر والفعل والتصرفات والنقد وإصدار الأحكام والبيانات والفتاوى ضد الأطراف الأخرى بشكل إقصائي نزق ، لا يُعبر عن شرع أو عقل أو رأي أو علم أو فقه أو حكمة . إن تسابق وتطاحن الخطابات التعبوية في مجتمعنا اليوم يتحرك بفعل منظم وغير منظم، كل منهما لديه مفرداته ومشاريعه وطاقاته وإمداداته وإمكانياته ومنابره ومؤسساته ووسائله لا يتسع المجال ولا المقال لحصرها ، لم تكن تلك الخطابات المتصارعة في ساحتنا وليدة الصدفة أو المرحلة أو الظرف ، بل هي كائنات حية تسربت إلينا ، أخذت تتكاثر وتتعاظم مثل البعوض بوتيرة عالية ومطردة . الملفت للنظر والبحث والتتبع أن مفردات تلك الخطابات متحجرة ومشوكة، يغلب عليها عنصر العدائية ولغة العنف والصراع، كأن تلك المفردات الملتهبة جوهر ومضمون الخطاب وخصائصه الملتصقة به ، تلك الوسائط والمصالح والأقطاب والمنابع يصعب فصلها عن تلك الخطابات ولا يستغني أحدهما عن الآخر ، ولو حدث ذلك لفقد كل منهما مقوماته وعنصر وجوده وطاقة فعله وتأثيره . تشريح مفردات تلك الخطابات المتصارعة والمتسابقة في الساحة يُسهل علينا تصنيف ثقافة العنف ومعالجة أورامها وتأثيرها وفصل نقاط الخبث فيها عن مركز الدعم والإمداد والأوامر والمنابر والوسائل المؤثرة فيه بشكل مباشر بقناعات وتحصين فكري وثقافي ، لأن ثمة حاجة ماسة وضرورية لبناء خطاب وسطي معتدل قادر على المواجهة والمعالجة من جهة ، يستثير العقل والعاطفة والتفكير والتدبر والتبصر من جهة أخرى ، يُفند بشكل علمي وشرعي وعقلي وفقهي مفردات ووسائل وغايات ومقاصد تلك الخطابات التي تتولى بلورة وتشكيل ثقافة العنف ويدفع بها لتتحول إلى واقع معيش وغذاء يومي يتقبله المجتمع ولا يلفظه أو يواجهه ويقاومه، لذلك فإن الخطاب التعبوي والتثقيفي والدعوي المعتدل يجب أن يكون منظماً ومدروساً، بحيث يستطيع مقاومة تلك الخطابات وإقناع الشباب بألا ينساقوا خلفها لمخاطرها وخبث استخدامها للإنسان وسيلة لتحقيق مصالح ونجاحات موهومة . إن مجتمعنا اليوم يواجه أكثر الخطابات الموجودة عنفاً وسوداوية وشراسة وتبلداً، كل خطاب منها يحمل برامج ومشاريع إقليمية مبتورة وناقمة ، غايتها القصوى تجييش المجتمع واستصناع الأتباع والمناصرين أو الأعداء والمستهدفين ، سباق محموم لا أخلاق له و لا حياء ، معارك خفية وضخ غير مسبوق للدعم المادي والمعنوي ، هذا الدعم قد يتحول في القريب العاجل إلى وقود لمعارك قادمة أكثر شراسة وعنفاً مما سبقها تطحن الجميع بلا استثناء .