بعد عام وبعض العام على اندلاع نيران الغضب العربي وظهور مفردة الثورة بعد غياب طويل استمر عقوداً من الزمن وعلى إثر ثورات ابتدائية قامت في ظروف استعمارية وسياسية مختلفة بعد كل ذلك وعلى خلفية غير واضحة من التناقضات الشعبية والسياسية تظهر بوضوح وجهات النظر المغايرة لسياسات الداخل من الخارج أو تلك المغايرة لسياسات الخارج من الداخل في تبادل مشين لأدوار استهلاكية عفى عليها الزمن تعبر من وجهة نظر المحلل السياسي وسائل أو أدوات سياسية تستخدم خصيصاً لتحقيق أهدافها المتباينة هنا وهناك وفق خطط إستراتيجية معينة وموجهة بعناية حيث لا مجال للخطأ في لعبة السياسة والحكم وإدارة الشعوب وفق رغبة حاكم مُسير وحكم مزدوج. ولكل فعل في الوطن العربي ردة فعل معاكسة في السياسة الغربية لأن بلاد العرب جميعها تشكل خزان الوقود الاحتياطي الذي تسعى تلك السياسات لإبقائه في أمان مادياً فقط حتى لا تتعطل سلسلة مصالحها القومية بشكل أو بآخر..أما الإنسان العربي فهو لا شيء في مقياس السياسة الأجنبية خاصة حين تكون هويته (مسلم)! وحلبة التواطؤ الأجنبي مع السياسات العربية الجائرة تشهد بتلك الجولات التي كانت تعلن فيها صفارة الحكم فوز الخصم الشرس على الخصم الذي لم يطأ بعد أرض الحلبة! وبين دوامتين متضادتين على المستوى السياسي الداخلي والخارجي تنشأ تيارات مقاومة للإرادة المركزية لكنها للأسف تسير وفق إرادة فردية مشوشة تاركة خلفها إرثاً هشاً من المعتقدات التي ينسبها البعض للدين وهو منها براء. تلك التيارات هي من أحدث الخلل في البنية الأيديولوجية للمجتمعات العربية وهذا بدوره تسبب في وجود ثغرة لاستقطاب وجهات نظر عنيفة ضد الدين الإسلامي هي من فتحت المجال لإشهار مسمى الإرهاب في بلاد المسلمين، وبوجود اتجاهات وانتماءات سياسية متطرفة حديثة وقديمة مستوحاة من ثقافات غربية مغايرة لثقافتنا العربية نشأ الصراع السياسي الحزبي وأصبح هناك نوع من الطبقية السياسية سمحت للبعض بالسيطرة على معتقد الآخر عن طريق استخدام أدوات الهدم المحرمة ديناً وقانوناً وهي لا تخفى على أصحاب المخيلات القادرة على غربلة الاتجاهات المزدوجة وتحنيط أدواتها في زاوية الممكن واللاممكن. ليس حقاً القول: أن تلك الأفواج المليونية خرجت عن بكرة أبيها لتصرخ في وجه الظلم والفساد فقط، بل أن هناك اختلالات سياسية وأخلاقية وعقائدية تحمل على ظهرها وزر تلك الانتفاضات الغاضبة، غير أن تلك الاختلالات ولأسباب خارجة عن إدراك الشعوب لا تبدو واضحة بما يكفي حتى يمكن التجاوب معها بطريقة معقلنة، وفي شعوب عاطفية كتلك التي جعلت منصة الثورة فيها مسرحاً للسلام في وجه الحرب أو تلك التي منحت فوهة البندقية زهرة وبعض حلوى، في شعوب مثل تلك يسهل على مخلوقات رخوة فكرياً وسياسياً الالتصاق بالقمة أو القاعدة الاجتماعية وفرز مواد لزجة تساهم إلى حدٍ ما في تأخير الصحوة التي من شأنها إصلاح تلك الاختلالات سالفة الذكر. لم تجد الثورات العربية من يأخذ بيدها إلى بر الأمان لكنها وجدت من ألقى بها في بحر السياسة بأبشع الوسائل وأنتن الطرق، ومن هنا ظهرت فكرة التسلح لحماية أركانها وتسوية زواياها ومنحها فرصة أخرى للوثوب إلى الحلبة بعد أن قدمت قرابين لا حصر لها من شباب الأمة الذين كان هدم الكعبة عند الله حجراً حجراً أهون من سفك دمائهم الطاهرة، لكن يبقى للسياسة معادلاتها ولأدلجة العقائد أسبابها وللطبقية الاجتماعية حساباتها الخاصة وللحكام مصالحهم التي كلفت الشعوب أثمن ما تملك، ولهذا قد تجد بعض الثورات استجابة قوية من خارج حدودها الجغرافية حين تصبح أهدافها واضحة ومساراتها محددة ولديها كلها رؤية إنسانية واحدة، وبينما لا تنظر سياسة الداخل لتلك الثورات إلا كحالة افتتان بالدساتير يراها آخرون دستوراً تاريخياً جديداً ذا شأن كبير، ومع ذلك تقف المصلحة المشتركة بين الداخل والخارج حاجزاً دون تطبيق ذلك الدستور الجديد بكل ما تعنيه الكلمة شكلاً ومضموناً.