سأكون متفائلاً بحجم المساحة المفرغة من الخيام في ساحة عصية على الإفراغ، وأتعمد تجاوزات قسوة المكان بدواخلي الجريحة وأنتع تأكيدات “أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة”. رغم أن شعار الحياة هو الغائب وشعار الموت هو الحاضر، وكما عند التراث الفني: «يا زمن أشكوك لله». للتذكير فقط ليس إلا، ما أقسى العبور على جثث الناس المتكومة وأحلام البسطاء غير المرتب. ما الذي يفعله محمد المقبلي وهمدان الحقب وهاشم الأبارة، وغيرهم كثير من شباب الثورة في شوارع صنعاء القاسية وعبر الأزقة اليائسة، بعد أن لفظهم حوت الثورة ولم يعثروا على شجرة يقطين تظلهم من حر الشمس، وفي أحسن الأحوال يفكر هاشم في العودة إلى بسطته القديمة في شارع هائل؟. وأنا أدرك أن السياسة الكلاسيكية لا تكلف نفسها الإصغاء لنداء محمود ياسين عن فتيان 15 يناير وعذابات فتيان الثورة، وهم لا يستطيعون الرد على رسائل أصحاب البلاد التي تتكوم داخل صندوق الوارد “أين وصلتم بالثورة”؟ يكتب قلمي للتاريخ وحتى لا تكون الحالة الشبابية محض ذكريات يجترها أحدنا من علبة الماضي«المشقدفة» ليؤنس بها أحاديث المقايل ونقاشات البوافي، ومن دون مقدمات، فكلنا على علم بأن شباب الثورة هم من غيروا روتين الحياة وكسروا بوابة الماضي، ولكنهم لم يتمكنوا من النهوض والوقوف من كثرة أقدام الداخلين والمزدحمين على باب المستقبل الذين سال لعابهم وانتفخت أطماعهم وتفتحت شهيتهم للحياة مرة أخرى. ومن الواضح أن اللجنة التنظيمية لم تكن أكثر من إدارة مرور الماضي إلى المستقبل، حين اقتاتت على صحن كبير من فتات التبريرات السياسية الهشة طيلة أيام الثورة، في حين تبدو التبريرات السياسية مثل: وجبة إفطار ناقصة لا تسد فراغك ولا تقيك من الجوع وتعيدك إلى أسئلة الليل المفتوحة عن مصير شباب الثورة بعد التسوية السياسية. أنا أعرف أن الثورة ليست نهر النبي أيوب الذي اغتسل منه فتطهرت خطايا الماضي كلها دفعة واحدة بعد عناءات السنين، وللثورة بعد ذلك الخيار في تجديد أعمار الهيئات الاجتماعية والأشخاص المنضمين للثورة إن شاءت ذلك. طريقة أخرى للتعبير فحديث السياسيين لا يخلو في كثير من الأوقات من حالة الملل؛ لأنهم في أحاديثهم وحواراتهم ك«اللبان» يلوكون كل شيء ويحدثونك باهتمام بالغ وأناقة مصطنعة عن أهمية الذات الفردية كشيء مهم ولبنة أساسية في المجتمع باعتبارهم صوتاً انتخابياً يمكن أن يرجح كفة هذا أو ذاك.. رغم أن معرفتي وخبرتي في الحياة تؤكد لي أن السياسيين يجهلون حقيقة هامة في نظرنا على الأقل - نحن شباب الثورة - وهي أن الوطن لا يمكنه أن ينهض أو يتطور فيما لو ظلت القوى السياسية والوطنية تعتبر الإنسان صوتاً انتخابياً فقط، بل عليها أن تعتبره رأس المال الأكثر أهمية وديمومة وليس حالة مؤقتة أو سيارة عابرة (يعني على الماشي) للاستفادة منه والعبور فوق جسده النحيل. في أكبر عملية تغييب واضحة للشريك الثوري والفاعل الحقيقي يتكئ السياسيون على جيل كامل من تذاكر القطار التي سرعان ما يمزقونها فور وصولهم محطة الانتظار ونهاية الرحلة. من حقي كأحد شباب الثورة أن أقلق وألعن هاجس الكرت المستخدم الذي صرح به علي عبدالله صالح في إحدى مقابلاته عام 2006م بقناة (الجزيرة) وهو يتحدث عن حزب الإصلاح ودوره في حرب 1994م وبأنه استخدمه ككرت ثم انتهى، فيما يتملكني الخوف فيما لو أصبح شباب الثورة كرتاً جديداً انتهى رصيده، وصار بوسع الإنسان أن يرميه في أي مكان. يبدو شباب الثورة حالة هلامية تعيشها أحلام مستغانمي في رواياتها على طريقة الجسور الممتدة في مدينة قسنطينة الثائرة والمعلقة فوق كل شيء، والتي تصل بين آلام الماضي وطموحات المستقبل ليعبر عليه السياسيون المتكدسون في المقرات الحزبية والمزمنون كمرض السكري. في أفضل الأحوال وفي بلدان الربيع العربي بالذات إن لم تدفع قيادات الأحزاب السياسية بالعناصر الثقافية والمدنية الحاملة للمشروع الوطني والمدني إلى مراكز القرار الحزبي، فستتحول الأحزاب السياسية إلى حظائر كبيرة للبشر، وعند ذلك سنعود قسراً بالذاكرة الكسولة لمراحل الطفولة الأولى وأفلام الكرتون المسلية، حيث تقود كاتولي بكل سعادة قطيعها من الأبقار وهي تغني بصوت بريء ومدهش: أقود القطيعا... أقود القطيعا برحب المراعي... أقود القطيعا [email protected]