هذه هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدماي بلداً شرق أسيوي ولحسن حظي -كما يقول العديد من زملائي المعتادين على زيارة تلك البلدان - أن تكون سنغافورة هي وجهتي الأولى في هذه المنطقة. تدهشك سنغافورة البلد الصغير الذي عجز كل من سألتهم من أبنائه عن معرفة مساحته ليس لصغرها وإنما لأن الحكومة وسعت حجم البلد عبر ردم المياه المحيطة ، منذ أن تطأ قدمك أرضية المطار. دهشتك الأولى كعربي ستكون بمستوى النظافة التي يتمتع بها البلد ودهشتك الثانية كيمني وأنت تسير في شوارع سنغافورة أنها مغطاة تماماً بالأشجار، لأنك ستتذكر مباشرة ماذكره الله تعالى في القرآن الكريم عن أرض الجنتين . أما الدهشة الأكبر فمصدرها أنك لن تجد شرطياً واحداً ولا حتى دورية شرطة واحدة تجوب شوارع سنغافورة ومع ذلك لن تجد تعدياً من أحد على الطريق ولا على الاشارات وستتنقل في سنغافورة في أي وقت من الليل أو النهار دون أن تشعر بأي نوع من الخوف أو الخشية من أن يتعرض طريقك بلطجي أو سكران أو حتى عسكري من حمران العيوان . وفي سنغافورة لن تجد مشكلة في التنقل والمواصلات فهناك 3000 باص نقل بالاضافة الى المترو و أكثر من 20 ألف سيارة تاكسي أغلبها هو عبارة عن سيارات ذكية خصوصاً فيما يتعلق بعملية الدفع حيث يمكن دفع أجرة أي تاكسي بأي بطاقة ائتمانية مهما كانت تلك القيمة حتى لو كانت 2 دولار فقط إن لم يكن لديك ماتدفع نقداً . في سنغافورة لن تجد من يبيعك شريط علكة أو قطعتي لبان طبيعي ولن يزعجك أصحاب البردقان بما يقذونه من أفواههم من وسخ من مثل مايطلق عليه البعض لدينا امتداحاً “ملح الرجال” .. الجميع هناك رجال بدون ملح .. فتناول العلكة في سنغافورة أمر مرفوض وكذلك البصق على الأرض فكل تلك جرائم يعاقب عليها القانون . في سنغافورة يتناغم الملاوي المسلم مع الهندي والصيني غير المسلمين بشكل مثالي ورغم سطوة الصينيين وحضورهم الطاغي باعتبارهم القومية الأكثر تعداداً إلا أنك لن تجد بلاطجة صينيين ولا مرتزقة هنوداً ولا حتى مغلوباً على أمره ملاوياً.. الجميع مواطنون يتمتعون بكافة الحقوق ويلتزمون بكافة الواجبات دون تمييز . رغم صغر سنغافورة حيث لا يتجاوز تعداد سكانها الخمسة إلى ستة ملايين نصفهم تقريباً وافدون إلا أن إنجازاتها ومشاريعها لا تنتهي وتميزها يكاد يكون فريداً ليس في آسيا فحسب بل في العالم أجمع ولعل ذلك نابع من حرص مؤسسي الدولة الأوائل على أن لا يتزوج الرجل إلا من سيدة متعلمة فذلك أسهل الطرق لإنتاج مجتمع مستنير. ولذلك فلا عجب أن يكون في سنغافورة مكتبة وطنية و 24 مكتبة عامة منتشرة في عموم البلاد ، ويبلغ عدد اعضائها اثنين مليون شخص ويرتادها 36 مليون شخص كل عام . في سنغافورة لكل شيء قصة نجاح مبهرة لكن الأكثر إبهاراً في تقديري هو قصة التحول التقني والتي تقودها هيئة تطوير المعلومات والاتصالات في سنغافورة (iDA ) حيث تطبق هذه الهيئة الحكومية خطة لتحويل سنغافورة إلى بلد ذكي بحلول العام 2015 من خلال خطة تعرف باسم الأمة الذكية 2015 (iN2015)،. ومنذ أطلق المشروع في العام 1981 وضعت عدة خطط خمس سنوية لإنجاز هذا التحول العظيم المستند على قطاع الاتصالات الذي حقق العام الماضي دخلاً يتجاوز الثمانين مليار دولار ، أحدثها خطة مشروع (الأمة الذكية عام 2015) (iN2015) والتي أطلقت في يونيو 2011 . الفكرة الاساسية لهذا المشروع هي تحويل سنغافورة إلى دولة ذكية مدعومة بالمعلومات والاتصالات، من خلال تسخير المعلومات والاتصالات لتعزيز طريقة عمل الناس، فضلاً عن دعم طرق العيش ووسائل اللعب والتعلم، فالمدارس السنغافورية تركز على أن تغيير تفكير الأطفال وأسلوب تعليمهم ليكون مرتكزاً على فكرة «نلعب لنتعلم ونتعلم لنلعب» . التقيت على هامش هذه الزيارة لسنغافورة السيد روني تاي ، الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير المعلومات والاتصالات في سنغافورة ( iDA ) وسألته عن أهداف مشروع (iN2015) فأجابني باختصار أن المشروع يسعى لتحقيق الأهداف التالية: · أن يكون المشروع الأول على مستوى العالم في مجال الاستفادة من المعلومات والاتصالات عن طريق إضافة القيمة للاقتصاد والمجتمع. · تحقيق زيادة بمعدل الضعفين في القيمة لصناعة المعلومات والاتصالات . · تحقيق زيادة بمقدار ثلاثة أضعاف في عائدات تصدير المعلومات والاتصالات . · خلق 80 ألف فرصة عمل إضافية. · تزويد 90 بالمئة من المنازل بالحزمة العريضة واسعة النطاق . · تحقيق نسبة 100 في المئة في معدل انتشار أجهزة الكمبيوتر لجميع المنازل التي يوجد بها أطفال المدارس . واستكمالاً لهذا الطموح السنغافوري المرتكز على التعليم ، يوجد معهد متخصص لإعداد وتدريب المعلمين باعتبارهم حملة المشاعل التنويرية .. في هذا المعهد لايؤهلون المعلمين للتعامل مع طلاب اليوم أو طلاب مابعد 10 إلى 20 سنة ، بل إنهم يعدون المعلم للتعامل مع المستقبل ومع العام 2100 . خلال زيارتنا لهذا المعهد عشنا تجربة فريدة عبارة عن تصور تقني لما سيكون عليه الفصل الدراسي في العام 2100 ، وكيف أن الفصل الدراسي سيتحول إلى ما يشبه الواقع التفاعلي بحيث إذا كان الطالب يدرس – على سبيل المثال – موضوعاً حول البيئة فإنه بمجرد تغيير العوامل المؤثرة على البيئة من إنتاج النفط والانبعاثات الكربونية وغيرها سيتفاعل الفصل تلقائياً مع هذا التغيير في العوامل ويتأثر الطالب بشكل حسي بما سيؤول إليه حال بيئتنا بمجرد تغييره للعوامل المؤثرة فيها ، فمثلاً لوقام الطلاب بتغيير معدلات انتاج النفط والغاز واستهلاك الطاقة فإن درجة حرارة الفصل سترتفع تلقائياً وسيظهر تأثير ارتفاع الحرارة في شاشات تفاعلية توضح احتراق الغابات وغيرها من التأثيرات .