من المعروف تاريخياً أن التوحُّد كان سمة المتأملين الحالمين الرائين لما وراء الآكام والظواهر ممن حباهم الله قدرة على الإبصار والترقي المعنوي، وكانت تجليات التوحّد تتناسب مع شكل من أشكال الانقطاع الواعي عن الأحوال والتقلبات اليومية التي تحاصر الإنسان صباح مساء، وتضعه في صُلب القلق المتواتر الذي لا يخلو منه أي مجتمع بشري . لم يكن التوحّد هروباً من المجتمع كما يبدو لأول وهلة، بل إنه نوع تواصل رقيق معه، من خلال مشاهدة أحواله عن بُعد، ومن خلال امتلاك مساحة واقعية تجعل الرائي قادراً على فرز الغث من السمين، والانصراف لعوالمه الداخلية، واستجلاء قابلياته وقدراته الذهنية والعقلية. المتوحد المتأمل أكثر الناس قدرة على استنفار البصيرة، وتجاوز الطوارئ اليومية، والتوترات الصغيرة ، ذلك أنه فيما يتأمل يستجلي كوامن القوة المعنوية في ذاته ، ويرى العوابر بعدسات إبصار حاذقة، ويرى البُعد في عين القرب، والمسافة بوصفها دالة فيزيائية لا تغني عن الحقيقية. هكذا فعل «بوذا» و«ماني» ، وتابع « طاغور» و«غاندي»، وهكذا رأينا في سير الكبار تلك المسافة التي ترفع الحساسية، وتجعل التوتر الذهني والحيرة الفلسفية نوعاً من المتعة المعنوية، ذلك أن المُتوحّد يستطيع أن يراقب نفسه قبل أن يراقب الوسط المحيط به، ويستطيع أن يعرف مثالبه وعيوبه قبل أن يُحاسب الآخرين على عيوبهم ومثالبهم، والشاهد أن من يعرف عيوبه أكثر الناس قدرة على تجاوزها، ومن يعرف مثالب المجتمع أكثر الناس قدرة على التجويز والنظر الرحيم لأحوال الضالين التائهين . [email protected]