على الرغم من اهمية النقود والنظام النقدي في الاقتصاديات الحديثة فإن القرآن لم يتعرض لا للنقود ولا للنظام النقدي بشكل مباشر. وربما يعود ذلك إلى كون النقود والنظام النقدي شأن يتغير بتغير الظروف والمعارف الانسانية وبالتالي فإنهما لا يمكن أن يقننا في قواعد محددة قابلة للدوام والاستمرار. ومع ذلك فإنه يمكن القول إن هناك إشارات كثيرة في القرآن لها علاقة بتنظيم وظائف النقود والنظام النقدي. في هذا المقال سنتعرض لبعض هذه الاشارات وعلاقتها بموضوع النقود والنظام النقدي وذلك على النحو التالي. فمن الواضح الجلي أن النقود لها علاقة قوية بموضوع المليكة التي رأينا كيف أن القرآن قد اعتنى بها. وعلى هذا الاساس فإن بعض قواعد المليكة التي اقرها القرآن يمكن ان يكون لها علاقة بموضوع النقود والنظام النقدي. ومن اجل توضيح ذلك فإنه ينبغي ان نفرق بين مفهومي الرزق و المال كما اوضحهما القرآن. الرزق كما ورد في القران يشير الى السلع و الخدمات الحقيقية التي لها صفة اشباع الحاجات الانسانية. و لا شك ان العديد من هذه السلع والخدمات لها قيمة في ذاتها بغض النظر إن كان لها قيمة نقدية ام لا. اما المال فانه يشير الى السلع و الخدمات التي لها قدرة على اشباع الحاجات الانسانية و لكنها في حال تقييمها بالنقود. اي ان الرزق يشير الى القيمة الاستخدامية لكل من السلع و الخدمات. اما المال فانه يشير الى القيمة التبادلية للسلع و الخدمات. وبما ان هناك اختلافا بين القيمة الاستخدامية و القيمة التبادلية للسلع و الخدمات فان هناك اختلافا بين كل من الرزق و المال. "الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع. والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت إيمانهم فهم فيه سواء، أفبنعمة الله يجحدون. إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا". "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير". فالرزق هو السلع و الخدمات التي يحتاجها الناس سواء كانت مملوكة ام لم تكن مملوكة. إذن فالرزق يشير الى الموارد الاقتصادية (الارض و العمل ورأس المال والتنظيم) وما يترتب على استخدام هذه الموارد في انتاج السلع والخدمات على ارض الواقع. إن الرزق يمثل القيمة الحقيقية للموارد الاقتصادية والسلع و الخدمات التي انتجتها. والدليل على ذلك أن القرآن نفسه يفرق بين السلع الحقيقية والسلع المقومة بالنقود. "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين. قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين". لكن في آيات اخرى فإن القرآن يتحدث عن الاموال بصفة مستقلة. "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقا من اموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون. مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم. ولتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور. وآتوا اليتامى اموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم الى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا. ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا. وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم اموالهم ولا تأكلوها اسرافا وبداراً ان يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم اليهم اموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا. يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم اموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما. يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم. قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا او أن نفعل في اموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد. وما أتيتم من ربا ليربو في اموال الناس فلا يربو عند الله وما اتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون". "وفي اموالهم حق للسائل والمحروم". "اعلموا انما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث اعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور". ويتضح من هذه الآيات أن القرآن يعتبر المال غير الرزق. فالرزق كله خير لأنه من الله. أما المال فقد يكون خيرا وقد لا يكون كذلك. ومن ثم فإن الفرق بين الرزق و المال هو أن المال هو رزق تحول الى المليكة. ولذلك فقد كان ممكنا تقويمه بالنقود فأطلق عليه مالاً. فالمال مملوك من ناحية و بالتالي قابل للتصرف فيه من قبل مالكه وبالتالي اتصف بالسيولة. فغير المملوك لا يمكن التصرف فيه و بالتالي فإنه يكون غير قابل للتسييل. ومن أجل أن يكون هناك توافق بين الرزق والمال فإنه لا بد أن تكون طرق تمليك المال عادلة، أي عن تراضٍ و ليس عن إجبار وإكراه واستغلال. وأيضا فلا بد أن تكون عملية تقييمه حقيقية اي ان يكون ما يستخدم لنقد للتقييم دقيقا و وافيا وغير متلاعب به. و من اجل ذلك فإن النظام النقدي يجب أن يكون قائماً ومنضبطاً بالعدل. وإذا لم يتم ضبط ذلك في أي مرحلة من المراحل فإنه يمكن تصحيحه . فاذا ما تسرب الى المال اي إثم. في حال كان هناك ظلم في اكتسابه اي امتلاكه او كان هناك ايضا ظلم في تقييمه. و يمكن تحويل المال من الإثم الى البر من خلال تصحيح ما لحق به من إثم نتيجة لذلك. فعلى سبيل المثال الإنفاق في سبيل الله يصحح ما قد يكون لحق بكسب المال من ظلم. و في نفس السياق يمكن النظر الى قوله تعالى "خذ من اموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم". و يمكن تنقية المال من الظلم الذي لحق به من خلال تقييمه بالنقود من خلال التجارة "الا أن تكون تجارة عن تراض منكم". و يمكن تصحيح ما قد يلحق بالمال من ظلم في حال الربا من خلال "فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون و لا تظلمون". و هذا ما سنحاول توضيحه قدر الإمكان في المقالات القادمة بإذن الله تعالى.