لا عجب أن نجد ممارسات حكامنا العرب هي نفسها تلك التي عاشها أسلافنا قبل قرون طويلة، فهم يتشربون مبادئ الظلم والاستبداد من كؤوس تجارب أسلافهم حتى يحافظوا على الكرسي. ولو تأملنا وصف المفكرين القدامى لخصائص تلك المبادئ لكان من السهل علينا إسقاطها جميعاً اليوم على الكثير من حكامنا، فالاستبداد ملة واحدة. لعل أقدم وأشهر منهج تشربه المستبدون هو “المكيافيلية” التي اختزلت حكمتها المبدأ العام: “الغاية تبرر الوسيلة”، التي تحرض الحاكم على انتهاج كافة السبل اللاأخلاقية، من أجل الوصول إلى أهدافه والحفاظ على الكرسي لأطول فترة ممكنة، لكنه في المقابل لا يتنبه إلى المصائر المهلكة التي يصل إليها أغلبهم في نهاية حكمهم، ولا يأبهون بلعنة التاريخ والشعوب التي دائماً ما تثور عليهم ويدفعون لقاء ذلك أنهاراً من الدماء والدمار. لقد وصف المفكر الإيطالي نيكولا مكيافيلي ذلك المنهج في كتابه الشهير “الأمير” الذي اشتهر بعد وفاته عام 1527م بسنوات قلائل، وصار الأشهر في التاريخ، ومن الكتب التي غيرت مجرى الحياة والتاريخ البشري. لقد أدمن طواغيت التاريخ على قراءة هذا الكتاب، فيشتهر عن الديكتاتور الإيطالي تيتو بشغفه بقراءة الكتاب لعدة مرات، ويقال: إن هتلر كان يقرأ صفحة كل يوم من الكتاب قبل النوم حتى يقال: إن مستشاري الحكام العرب الحديثين قاموا بتلخيص أهم مبادئ الكتاب وإعطائها لقادتهم على شكل جرع دورية، ليغدو أولئك المستشارين الوحيدين الذين يستمع الحكام إليهم ويقربونهم إليهم. وعلى الصعيد العربي الحديث، كان المفكر العربي عبدالرحمن الكواكبي المتوفى عام 1902 واحداً من أبرز فلاسفة العرب ومؤرخي السياسة العربية الحداثيين بحكم عمله في الصحافة والمحاماة في حلب. كان من أبرز نتاجاته كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” الذي وثّق فيه عصارة تجاربه وملاحظاته على المشهد العربي الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر (والتي لاتزال شواهده قائمة بعد أكثر من قرن وربع من إصداره الكتاب)، وذلك في دعوة مبكرة للتخلص من الاستبداد السياسي. الكتاب في مجمله قيمة بلاغية فكرية لا تقتصر على زمن إخراجه نهاية القرن التاسع عشر، لما يحتويه من تفنيد معاصر وإيضاح، معبراً عن أحوال بلدان العالم الثالث، ولا يعاب في الكواكبي إلا ميوله لفصل الدين عن أمور السياسة تأثراً بالحركة الإصلاحية إبان الاستعمار، يشاركه في ذلك جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. في كتابه، يتطرق الكواكبي لتوصيف معاني استبداد الحاكم ودوافعه وصفات رعية المستبد ونماذج الاستبداد كالحاكم المطلق والوارث للعرش والحائز للسلطة الدينية. يتناول الكواكبي إشكالية تسخير الدين لتعظيم المستبد عند أذهان العوام، ويستعرض نماذج الاستبداد الديني الممزوج بالاستبداد السياسي لدى يهود ونصارى العصور الوسطى، إسقاطاً على تفوق الإسلام في تأسيس عقيدة التوحيد وانتزاع البشر لدينهم دون وسيط أو وصي بين العبد وربه. ويستخلص من خلال رصده لأحوال عصره أن البدع والتسلط الديني وإطاعة المستبد العمياء، قد شوشت الإيمان وشوهت الأديان. ويحلل الكواكبي علاقة الاستبداد بالعلم، حيث يستبعد المستبدُ المتعلمين والصالحين، ويرتكن إلى صغار العقول والأخلاق، وفق نظرية ابن خلدون: “وفاز المتملقون”، وليعمل المستبد وحاشيته في إطفاء مشكاة المعرفة من أجل تجهيل العامة وإجبارهم على الاستسلام لما يجود به المستبد من معارف. كما يقارن تأثير الاستبداد بين المجد الممدوح والمرغوب فطرياً إلى النفس البشرية، والسعي للتمجد المذموم جبراً على رقاب الرعية، ليصبح الممجِّدون سماسرة للمستبد لتغرير الأمة وجرها للتهليل بعظمته واستحالة العيش بدون ظله. ويوضح الكواكبي تأثير المال وحاشية التجار في دعم المستبد، ومزاحمة قلة من الأغنياء لإماتة الفقراء في ميدان الحياة، واعتبر الكواكبي المال يُستمد من الفيض الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة، ولا يجتمع المال استحواذاً في يد الأغنياء القلة إلا بأنواع من الغلبة والخداع. ويسترسل في إيضاح أوجه التضامن الاجتماعي بالربط بين مزايا الاشتراكية وقيم العدالة الإسلامية. يناقش المفكر الكبير اعتلال الأخلاق تحت حكم الاستبداد الذي يشقلب المبادئ الفكرية والأخلاقية ويضني الأجساد فقراً وجوعاً، ليصل تسفُّل إدراك العوام إلى الانبهار بما يحكي عن جبروت المستبد، قانعين أنفسهم بأن الدواء في الداء، فينصاعون انصياع الغنم في أيدي الذئاب، فيفتقد الناس الشهامة، ويتخذون صفاته السيئة قدوة ويتبعون الفوضى في سلوكياتهم. وفي تحليله للاستبداد من ناحية التربية، يرى أن الاستبداد يدفع الناس إلى استباحة الخصال. يسهب الكواكبي في إيضاح أثر الاستبداد على الترقي الذي هو تعبير عن حيوية المجتمع هرباً من الانحطاط، ويرفع الضغط عن العقول لتمزيق غيوم أوهام أقرها المستبد. ويجتهد الكواكبي لإثبات أعمال العقل مع الدين، وينطلق في ذكر مراسلاته للأمة الإسلامية لتحفيزها على الاستنهاض وإعادة صياغة فهم صحيح للإسلام بعيداً عن التسلط والإذعان. ينهي الكواكبي كتابه بكلمات ثورية ينصح فيها بمبادئ إسقاط الاستبداد وتهيئة ما يُستبدل به الاستبداد قبل مقاومة المستبد بالقوة. ويستخلص نتيجة بأنه لا وسيلة لتفجير طاقات الرعية إلا بتجفيف الخوف من المستبد والمعرفة بحقيقة المستبد، مذكراً بأن أول آيات القرآن “اقرأ”، سعياً وراء المعرفة وتحصيل العلوم. ويختم بنصائح للأمة للتخلص من الاستبداد، بتعريف معاني الأمة والحكومة والتساوي في الحقوق وتوزيع التكليفات والرقابة على الحكومة والمال العام وتأمين العدالة القضائية وصيانة الدين والآداب العامة وفصل السلطات ومداومة العمران والإنتاج.