ما من شك في أن الإنسانية الحقة لا تكمن في الجسد الفاني، ولكن في الروح التي تستعلي على السلوك الغرائزي والنزوع البهيمي.. وللشاعر الأديب أبي الفتح البستي: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح فيما فيه خسران؟ أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان لكن الإنسان يبقى مع ذلك محكوماً بالضرورات الجسدية التي يتشارك فيها مع مخلوقات أخرى هي أدنى منه؛ لأن الخالق سبحانه لم يهبها ما وهبه من الكمالات الروحية والعقلية. ويخطئ الإنسان كثيراً ويسيء إلى قيمته وشخصيته الاعتبارية المكرمة حين يصبح كل همه مطالب الجسد وشهوات الحس. ومن لطائف الزهاد أن رجلاً سأل سهل بن عبد الله - رحمه الله - عن القوت؟ فقال: هو الحي الذي لا يموت. فقال: إنما سألتك عن القوام. فقال: القوام هو العلم. فقال: سألتك عن الغذاء. فقال: الغذاء هو الذكر. فقال: إنما سألتك عن طعام الجسد. فقال: ما لك وللجسد، دع من تولاه أولاً يتولاه آخراً!. والإمام الغزالي - رحمه الله - يرى أن من أهداف الصيام الارتقاء بإنسانية الإنسان، والسمو بروحه؛ لأن الإنسان في صومه يقتدي بالملائكة ويرتقي إلى أفقهم العالي، يقول رحمه الله: ((الإنسان رتبته فوق رتبة البهائم؛ لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة؛ لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين، والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين، والتحق بأفق الملائكة، والملائكة مقربون من الله عز وجل، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم، فإن الشبيه من القريب قريب، وليس القريب ثَم بالمكان بل بالصفات، وهذا هو سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب)) الإحياء (1 / 458). وليس ثمة شك أن من أهداف الصيام الارتقاء بإنسانية الإنسان، والسمو بروحه فوق الشهوات، وهنالك من أهل الفكر والنظر من يرى أن هذه هي الغاية من الصيام المذكورة في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)). يقول الرافعي رحمه الله عن هذه الآية: ((وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى (التقوى)، أما أنا فأولتها من (الاتقاء) فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته!. إن الإسلام يريد بالصوم أن يربي الإنسانية كلها على حذف تاريخ البطن ثلاثين يوماً في السنة. ويقول الرافعي أيضاً: ((ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بمقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم ولا بما ملكوا، وإنما يختلفون ببطونهم وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض، إذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة مد البطن مدة من قوى الهضم فلم يبق ولم يذر، ومن هاهنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء ليس لجميعهم إلا شعور واحد، وحس واحد، وطبيعة واحدة، ويُحكم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة [سيجارة] وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح)). ويقول الفيلسوف الإنجليزي (وايت هيد): ((إن الدين ينظر إلى ما يفعله الحيوان، فيأمرك بعكسه، إنه شره، فعليك أن تصوم. إنه يتسافد، فعليك أن تتعفف. إنه يسعى إلى اللذة، ويهرب من الألم، فعليك أن تتعرض للمصاعب. باختصار : إنه يعيش بشهواته، فعليك أن تعيش بروحك)). والذي يحسن التأمل في حكمة الصيام يدرك أن الصيام معراج الروح، وأنه بهذا المعراج ترتقي الروح إلى أفقها العالي، مستعليةً على ضرورات الجسد، وشهوات الحس. [email protected]