فكما لاحظنا الدقة الكبيرة التي اشترطها القرآن للسماح بالمداينة او التداين و من ذلك ضرورة كتابة مبلغ التداين و تاريخه و ان يملي الكتابة من عليه الحق و ان يشهد على ذلك شاهدان او شاهد و امرأتان و ان لا يتردد من يجيد الكتابة عنها و من يصلح للشهادة عنها ايضا بشرط ان لا يضار كاتب و لا شهيد. فإنه من باب الاولى ان تتوفر الدقة بهذا المستوى في ما يتم به تحديد مقدار الدين اي في النقود. بل انه يمكن القول بأنه لا بد وان تكون عملية اصدار النقود و إدارتها اكثر دقة و صرامة من المداينة نفسها لأن النقود لها علاقة بالمداينة و لها علاقة بغيرها. واذا لم تنضبط عملية اصدار النقود وإدارتها فإن ذلك سينعكس سلبا على كل ما له صلة بها. وفي هذه الحالة فإن ظلما كبيراً سيلحق ببعض افراد المجتمع وبالمجتمع كله. ويمكن توضيح ذلك من خلال استعراض عملية إدارة النقود الحديثة من حيث مدى انطباق معايير المداينة ومن حيث المشاكل التي تترتب على اخلال ببعض هذه المعاير. و نود ان نؤكد هنا ان النقود ما هي في حقيقة الامر الا مداينة المداينة. في العصر الحديث سيطر الذهب على النقود. فالجزء الكبير من مخزون العالم من الذهب كان يذهب لاستخدامه نقودا و ليس اي استخدامات اخرى. و قد تحقق ذلك بالتدريج منذ ان استطاع العرب اكتشاف امريكا اي البرتغاليون و الاسبانيون ثم الهولنديون ثم اخيرا الانجليز. فبعد ان تم اكتشاف اجزاء من امريكا الجنوبية كانت تراخيص الهجرة مرتبطة في البداية بمقدار معين من الفضة او الذهب و في فترة اخيرة من الذهب. و كان في ذلك الوقت ان ثروة الامم كما هي ثروة الافراد تقدر بمقدار ما تمتلكه هذه الدولة من الذهب. و لذلك كان تراكم الذهب في خزانة الدول دليل على تقدمها الاقتصادي و بالتالي فإن على الدولة ان تعمل على تسهيل دخول الذهب. و بهذه الطريقة بررت الامبراطورية الاسبانية على وجه التحديد ربط السماح لمواطنيها بمقدار ما يتعهدون بإحضاره من ذهب من امريكا الى اسبانيا. وبعد فترة من تطبيق هذه السياسة اكتشف انه قد ترتب عليها آثار عكسية، فمن ناحية فإن ما كان يدخل من ذهب الى اسبانيا كان يغادرها الى البلدان الاخرى لأن جزءاً كبيرا ممن اشتغلوا بجمع الذهب من السكان الاصليين تركوا ما كانوا يقومون به من انشطة اقتصادية منتجة وخصوصا في مجال الزراعة في اسبانيا. ونتيجة لذلك فإن اسبانيا اضطرت الى استيراد هذه السلع من الخارج مقابل دفع ثمنها ذهبا. و بالتالي فإن ما بقي من ذهب في اسبانيا كان قليلا وان جل ما تم جلبه من ذهب قد ذهب الى دول اخرى. هذا من ناحية و من ناحية اخرى فإن دخول الذهب بهذه الطريقة المكثفة قد ادى الى تأثيرات اقتصادية على القطاعات الاقتصادية الاخرى. فزيادة الذهب ادى الى زيادة المعروض منه و بالتالي الى انخفاض قيمته مقابل السلع التي تستوردها اسبانيا من الدول الاخرى مما ترتب عليه زيادة الواردات و انخفاض الصادرات. و بالاضافة الى ذلك فإن معدل الاسعار في اسبانيا كان يتذبذب بحسب تدفق الذهب من الخارج. و في نهاية المطاف نضب ما يمكن ان يحصل عليه الاسبان من السكان الاصليين و ارتفعت قيمة رخص الهجرة الى امريكا. و قد ترتب على ذلك دخول اسبانيا في كساد كبير ترتب عليه ان فقدت سمعتها وقوتها على المستوى الدولي. ان ما يهمنا من هذه القصة ان التذبذب في قيمة العملة حتى لو كانت هذه العملة سلعة مثل الذهب قد تترتب عليه آثار اقتصادية ضارة. و من المهم ان نؤكد ان هذه الاضرار لم يكن لها علاقة بالذهب كعملة و لكن كان بسبب عدم ثبات قيمتها النسبية مما ترتب عليه تغير غير مبرر و غير متوقع في قيمة السلع المنتجة في الداخل و في الخارج. وقد ترتب على ذلك إضعاف قطاعات اقتصادية لصالح قطاعات اخرى لا لشيء و انما لتغير التزامات العاملين في هذه القطاعات مقابل التزامات العاملين في غيرها. وبما ان الانتاج هو عملية مستقبلية فإن ما سيحدث من تغيير في اسعار السلع المتوقع انتاجها مقابل ما تم دفعه حالا من تكاليف انتاجها سيحدث تذبذبا في ايرادات المنتجين مما يسبب إما حدوث ارباح كبيرة غير متوقعة او خسائر كبيرة غير متوقعة ايضا. وبما ان قرارات الانتاج و الاستثمار او عدم الانتاج وتغير مجالات الاستثمار مرتبط بالأرباح او الخسارة المتوقعة فإن ما كان يحدث من تغيير في كل من الانتاج والاستثمار كان يتم وفقا لعوامل متغيرة و غير مفهومة. ولا شك ان ذلك قد أثر على العمالة و البطالة و معدل الاجور. ان ذلك كله قد تسبب في حدوث كوارث اقتصادية كبيرة لأكبر اقتصاد عالمي في ذلك الوقت اي الاقتصاد الاسباني و التي عرفت فيما بعد بلعنة المعدن النفيس اي الذهب اي ما ترتب على اعتماد الذهب كنقد و اعتبار ان زيادة النقود ستؤدي حتما الى زيادة الانتاج و زيادة الرفاه الاقتصادي. وعلى الرغم من ذلك فلم يكون هناك احد قادر على اكتشاف هذه العلاقة اي تاثير عدم انضباط قيمة النقود وما يترتب علي ذلك من تغيرات في الديون و المعاملات التي تسجل و تقوم بالنقود. فالدرس الذي استنتج من هذه التجارب الاقتصادية هذه هو ان الاستيراد مضر. ومن اجل معالجة ما ترتب على ذلك طور الاقتصاديون الفرنسيون نظرية اقتصادية تقوم على اعتبار الزراعة فقط هي الثورة الحقيقية لأنها وحدها تمكن من زيادة الانتاج الحقيقي. فالحبة تنتج مائة حبة و من ثم فإن انتاجية الزراعة لا غبار عليه. و من ثم فإن من يريد ان يزيد ثروته فإن عليه ان يزيد انتاجه الزراعي. فهو اذا مصدر النمو الاقتصادي الوحيد. لكنهم اوهموا ان هذا الانتاج يبادل في الاسواق الداخلية و الخارجية و انه يتم تبادله باستخدام النقود. و من ثم فإن التذبذب بقيمة المنتجات الزراعية على المستوى العام او على المستوى الدولي يؤثر على كميات المستهلك من المحاصيل الزراعية و السلع الاخرى. و من ثم فإن تجاهل تأثير النقود وتذبذب قيمتها لم يحل المشكلة المترتبة على ذلك. و قد عملت المدرسة التجارية التي نشأت في انجلترا فيما بعد ان تناقش العلاقة بين التغيرات النقدية والتغيرات الاقتصادية الحقيقية من خلال ما اطلق عليه مشكلة سعر الصرف او مشكلة ميزان المدفوعات. و سوف نناقش النتائج التي توصلت اليها هذه المدرسة في مقال يوم غد بإذن الله تعالى.