قد يكون من الصعب تناول كل الموضوعات المتعلقة بالنقود بشكل متتالي لأن النقود لها علاقة قوية بموضوعات اخرى مثل التجارة و السوق و الدولة و الثقافة. و الدليل على ذلك انه على الرغم من قدم اختراع الانسان للنقود فانها قد تطورت بشكل كبير منذ ذلك الوقت تبعا لتطور الموضوعات المتعلقة بكل من التجارة و السوق و الدولة و الثقافة. و اذا كان الامر على هذا النحو فان تعامل القرآن مع النقود كان في جزء كبير منه تعاملا غير مباشر و ذلك من خلال تاثير القرآن على كل من التجارة و السوق و الدولة و الثقافة. و مع ذلك فإننا في هذا المقال سوف نستكمل ما نعتقد ان القرآن قد تضمنه من قواعد لها علاقة مباشرة بالنقود. في المقال السابق قد ناقشنا حظ القرآن على عدم التطفيف و البخس اي ضرورة الحرص على الوفاء بالكيل و الموازين. و بما ان النقود تعتبر نوعا من الوزن و الكيل فإنه لا بد و ان ينطبق ذلك عليها. فمن الواضح ان اهم وظيفة للنقود في العصر الحديث هي تسهيلها عملية تبادل الدين بالدين. فمن المعروف ان تبادل السلع بالسلع يكون تاثير النقود عليه محدود. فالنقود في هذه الحالة لا يعد دورها ان يكون مساعدا و حسب. فالمتبادلان يشاهدان السلعتين المراد تبادلهما و يرغبان في عملية التبادل و ربما الاستهلاك حالا. و لذلك فما تقوم به النقود في هذه الحالة هو عملية تسهيلية. فالشخص الذي يبادل السلعة بالنقود لا يفكر بالنقود و انما يفكر بالسلعة التي يرغب في الحصول عليها. و ذلك فبمجرد قبض النقود فانه يسرع الى شراء السلعة التي يرغب بها. و في هذه الحالة فان النقود لا تمكث لديه كثيرا. و بالتالي فإن اهتمامه بها ليس كبيرا. و في حقيقة الامر فإن هذا هو ما يحدث في السوق. فالسوق اذن قد سلب النقود الكثير من وظائفها و دورها كما سنوضح ذلك لاحقا. و تلعب النقود دورا اكبر في حال تم تقديم السلعة و تاخير الثمن (بيع التقسيط) او في حال تقديم الثمن و تاخير السلعة ( بيع السلم). فتاخير احد العوضين ما كان ليتم لولا توسط النقود. فالنقود هنا ليست فقط وسيلة للحساب و لا حتى فقط وسيط للتبادل. انها في هذه الحالة تقوم بوظيفة جديدة اهم من الوظيفتين السابقتين. انها اصبحت وسيلة لتخزين القيمة. لقد ترتب على نجاح النقود في القيام بهذه الوظيفة اي تخزين القيم ان تغيرت طبيعة كل من الانتاج و التوزيع و الاستهلاك بشكل كبير و إن لم يكن جذريا. فالانتاج لم يعد يحدد التوزيع و التوزيع لم يعد يحدد الاستهلاك بشكل كامل. فقد اصبح الانتاج يلبي طلب المنتجين و المستهلكين الذين لم يعودوا يمثلون نفس الافراد. فالشخص المتقاعد كان منتجا و اصبح مستهلكا فقط. و الطفل مستهلكا فقط و من المتوقع ان يصبح منتجاً. و المنتجون هم فقط المنتجون و المستهلكون. و بالتالي فإن عليهم ان يستهلكوا اقل مما ينتجون حتى يردوا ما استهلكوه عندما كانوا صغارا لمن هم الآن في سن التقاعد و حتى يدخروا لأنفسهم ما سيستهلكونه عندما يتقاعدون و ذلك بأن يوفروا للأطفال ما يستهلكون الآن. و ما كان ذلك ليتم الا من خلال النقود. فالنقود توفر لكل الاطراف تكاليف التخزين. لكن في نفس الوقت فإن قيام النقود بهذا الدور لم يكن بدون اعباء جديدة. فالفاصل بين الانتاج و الاستهلاك قد ترتب عليه تغير في قيمة السلع و بالتالي في قيمة النقود. و لذلك فإنه لا بد من اخذ ذلك بعين الاعتبار و ذلك من خلال عمل ضابط مناسبة لكل من النقود و عمليات التبادل هذه. و قد ازداد الامر تعقيدا في العصر الحديث عندما توسعت عمليات الاستثمار و التي تعني تبادل الدين بالدين. لقد ترتب على الفصل بين تمويل الاستثمار و ادارة الاستثمار ان تم تبادل الدين بالدين. فالشخص الممول هو دائن للمستثمر مقابل الحصول على جزء من انتاج الاستثمار بعد ان تكتمل عملية الاستثمار و يبدأ المشروع بالإنتاج الفعلي. و من اجل تسهيل هذه التمويلات بهدف تشجيعها قفد سمح لمن يملك ما يدول على تمويله للاستثمار المتوقع ان يبيعه الى شخص ثالث لا علاقة له بالاستثمار ابتداء. و لا شك ان ذلك قد مثل في حقيقة الامر بيع الدين بالدين. فالدين الاول عبر عنه بالنقود و تم بيعه بالنقود و ما تم تبادله في حقيقة الامر هو دين بدين. على الرغم من فوائد هذا التطور على كل من الاستثمار و الانتاج المستقبلي و بالتالي التوزيع و الاستهلاك المستقبلي فإنه قد كان له تأثيرات على النظام الاقتصادي برمته. و ما لم يتم ضبط ذلك بشكل مقبول فإنه يصبح سببا لحدوث الاختلالات الاقتصادية و الازمات الحادة. و من العجيب ان القرآن قد تنبأ بذلك قبل ما يزيد عن اربعة عشر قرنا من حدوثه. و قد ادى ذلك الى اشكال ذلك على بعض الفقهاء و المفسرين الذين زعموا ان هذه الآيات منسوخة. و كيف يمكن ان تنسخ قبل ان تطبق؟ (يا ايها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب ان يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها او ضعيفا او لا يستطيع ان يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا ولا تساموا ان تكتبوه صغيرا او كبيرا الى اجله ذلكم اقسط عند الله واقوم للشهادة وادنى الا ترتابوا الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح الا تكتبوها واشهدوا اذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وان تفعلوا فانه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم). لقد اثبتت التطورات الاقتصادية الحديثة ان هذه الآيات هي معجزة من معجزات القرآن و هو ما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله تعالى.