كان الشيخ لبوزة متمركزاً مع مجموعته في جبل البدوي، بعد أن نزل إلى القمة التي على يمين قرية البيضاء وهو يتقدم الفصيل الصدامي الأول ضد القوات البريطانية. “وهناك اشتدت كثافة المدفعية البريطانية بعد أن قصف موقعه بخمس قذائف مدفعية، أصابته الخامسة بشظية في الجانب الأيسر من القلب، وكانت لحظة الشهادة المسلحة على قمم جبال ردفان في يوم الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م هو اليوم الذي أعلنت فيه الجبهة القومية بداية الثورة المسلحة من على قمم جبال ردفان، وهي الثورة التي استمرت حتى جلاء آخر جندي بريطاني من أرض جنوباليمن”108-109ص. “لقد دفعت الجبهة القومية بعناصر قيادية بعضها من المجلس التنفيذي للإشراف على إدارة المعارك في هذه الجبهة وكلفت الشيخ عبدالله المجعلي بالتوجه إلى ردفان مباشرة بعد استشهاد المناضل راجح بن غالب لبوزة، وتبعه بعد ذلك القيادي المناضل طه أحمد مقبل، ثم كلفت القيادة عدداً من الضباط اليمنيين والمصريين للدخول لفترات قصيرة إلى مواقع الجبهة في ردفان لغرض تأهيل المقاتلين في مجال التخطيط ميدانياً للمعارك “109ص. “وقد تمكنت الجبهة القومية من مباشرة العمل العسكري في جبهة الضالع بقيادة المناضلين محمد البيشي وعلي أحمد ناصر عنتر، وفي جبهة حالمين تحت قيادة المناضل عبدالله مطلق، وفي جبهة دثينة تحت قيادة المناضل ناصر علوي السقاف”110ص. وبخصوص عدن فقد اختمرت “ونضجت فكرة العمل الفدائي المسلح داخل مدينة عدن، فقد بدأت التشكيلات التنظيمية للعمل الفدائي في مدينة عدن أوائل عام 1964م.. وتشكلت قيادة للمدينة مكونة من القطاع العسكري والقطاع الشعبي الذي كان يضم قطاعات العمال والمرأة والطلاب والتجار، وتحمل المسئولية في بداية العمل لعدة أشهر نور الدين قاسم، ثم تعرض للاعتقال، وأسندت المسؤولية فيما بعد للشهيد عبدالفتاح إسماعيل، الذي استمر يقودها حتى ما قبل الاستقلال بعدة أشهر”114ص. لقد كانت المراحل التي يمر بها الفدائي اختباراً يؤهل لاجتياز الصعوبات والمخاطر التي ستواجه نشاطه العملي، وأول الصفات التي يجب أن يتحلى بها الفدائي “الإيمان العامر بالتضحية من أجل الشعب والوطن، وثانيهما: أن يحرص كل الحرص على ألاّ يثير في سلوكه انتباه الآخرين أو يبوح بسر من أسرار العمل الفدائي، وأن يكون في غاية الهدوء يتصف بالجرأة والإقدام”114ص. “إضافة إلى اليقظة والانتباه ورباطة الجأش، والدقة والحذر، وعدم ترك أدنى أثر في حركته أو قصاصة ورق بعد كل اجتماع”. 114-115ص. “لقد اعتادت الجماهير في مدينة عدن على سماع الانفجارات والاشتباكات الليلية بين الفدائيين والقوات البريطانية، وتحولت هذه الجماهير إلى حارس أمين للفدائيين في كل زقاق وبيت وشارع والبيوت، والمحلات التجارية والدكاكين كانت مفتوحة لكل فدائي يريد النفاذ من مطاردة الدوريات البريطانية أو الاختباء عن أعين المخبرين والجواسيس المنتشرين في الأحياء والأزقة الشعبية “119ص. وهكذا استمر الثوار يطورون أساليب عملهم “لمواجهة كافة الاحتمالات والمفاجآت التي تقوم بها القوى الاستعمارية”120ص. وإلى جوار الكفاح المسلح كانت “القطاعات الشعبية المنظمة التي ساهمت في الدفع بوتيرة النضال إلى أقصى مدى من التظاهر والاعتصامات والإضرابات التي شلت الحركة داخل المدينة، وجعلت قوات الاستعمار البريطاني تعيش في حالة من الذعر والفزع والاضطراب”121ص. العلاقة مع المخابرات المصرية: كانت المخابرات المصرية أثناء تنفيذها لتوجيهات “الرئيس جمال عبدالناصر بتقديم الدعم للثورة المسلحة، تحاول أن تزرع الانقسامات داخل صفوف الجبهة القومية، وقد هالها أن ترى هذا الامتداد المنظم للجبهة القومية يغطي كل مناطق الجنوب، وشعرت أنها بحاجة إلى أن تفرض قدرتها على التحكم بمسار النضال الثوري وأبعاده الاجتماعية”123ص. وقد استطاعت المخابرات المصرية حسب رؤية الأستاذ راشد محمد ثابت على أن تزرع الشكوك وبث الانقسامات والإغراء بالأموال والأسلحة للبعض والتضييق على من لا يسير وفق مشيئتها... “لهذا كان الرد على هذه الأساليب بانخراط بقية القيادة في الشمال بعد الانسحاب من قيادة الإقليم هو الانخراط في أتون الصراع الذي كانت تخوضه قيادات الداخل لتصحيح أوضاع الجبهة على صعيد القيادة والممارسات الفكرية والنضالية”124ص. نشاط الجبهة اجتماعياً: لقد استطاعت الجبهة القومية التأثير على قطاع العمال، والسيطرة على ست نقابات من أصل تسع، المكونة للمؤتمر العمالي والذي يسيطر عليه حزب الشعب الاشتراكي، وهذه النقابات الست، هي النقابة العامة لعمال البترول، نقابة عمال وموظفي البنوك المحليين، نقابة عمال الإنشاء والتعمير، نقابة عمال أمانة الميناء، اتحاد عمال الطيران المدني، النقابة العامة للمعلمين، وقد دعمت النقابات الست بشكل علني الجبهة القومية، وكانت جريد الأمل بمثابة “شعار غير رسمي للنقابات الست، وقد تم تجميد نشاط المجلس التنفيذي للمؤتمر العمالي، وانسلاخ النقابات الست عن المؤتمر، لم يقتصر اهتمام الجبهة القومية التنظيمي على قطاع العمال والطلبة فحسب بل امتد ليشمل قطاعات المرأة والجيش، والتجار، والحرفيين في مختلف المواقع، داخل المدينةعدن وأريافها في المحميات الممتدة من باب المندب غربا حتى أطراف المهرة شرقاً”130ص. “لقد عملت الجبهة على توزيع خيرة العناصر التي تمرست في العمل الحزبي في إطار حركة القوميين من الطلبة الدارسين أو المهاجرين في مناطق العراق، والكويت والبحرين، وغيرها من مناطق الخليج والسعودية، لتتجمل المسئولية الجماهيرية في المهرة وحضرموت”131ص. لقد ساعد الجبهة على النشاط في استقطاباتها الاجتماعية دقة التنظيم، واستخدامها “الهيكل التنظيمي والأسلوب المتبع في حركة القوميين العرب”132ص. مراجعة الأخطاء وتصحيحها: لقد كان الوعي الدائم بالأخطاء وتصحيحها من العوامل الرئيسة في نجاح الجبهة القومية بطرد المستعمر البريطاني، فعلى سبيل المثال حين اعتمدت الجبهة القومية في الشهور الأولى “من الثورة” على حماس القبائل في قيادة النضال، في حين اقتصر دور القيادة للجبهة على التمويل بالسلاح والذخيرة، وتأكد للجبهة أن العمل الذي يخلو من الرابط التنظيمي يقود إلى الفوضى، وهروب الأفراد مع أسلحتهم، أو التصرف بالأسلحة والذخائر لغير أهداف الثورة، لهذا عملت الجبهة على “فصل قيادة القبائل عن القيادة العسكرية وتعيين قيادات تتحلى بصفات القيادة الواعية على أساس أن توفر ارتباطاً تنظيمياً بين جنود جيش التحرير وقياداته، الأمر الذي ولد رد فعل لدى شيوخ القبائل جعل الجبهة تتصدى لهم وتكلفهم بمهام أخرى لحل الخلافات والصلح بين القبائل المتخاصمة وبث الدعاية في أوساطهم لصالح الثورة والجبهة القومية”134-135ص. لقد كان الميثاق الوطني للجبهة متأثراً بالميثاق الوطني في مصر، فظروف مواجهة الرجعية والاستعمار في مصر واليمن واحدة، ومتطلبات التحول الاجتماعي والاقتصادي أيضاً مشتركة، لهذا تنبهت القوى التقليدية، التي تسارعت في شمال اليمن لعقد مؤتمر عمران ثم خمر، من أجل احتواء الثورة في الشمال، وجعل محتواها قبلياً، لا جمهورياً ولا إمامياً.. وكان موقف المؤتمرين بعمران وخمر تجاه النضال ضد المستعمر البريطاني في الجنوب يتمثل بقرارهم الذي ينصب على أن من مصلحة اليمن استعمال الحكمة لاسيما وسلاطين المحميات في الجنوب ظلوا يؤيدون قضية اليمن. وأردف القرار موضحاً: “لقد كانت لحج وأبين ويافع السفلى، والعواذل وبحان ملاجئ للأحرار والفارين.. وينبغي ألاّ تجرنا العاطفة إلى تأييد الكفاح المسلح في الجنوب، بل يجب أن نعمل على إرساء علاقات طيبة مع الجيران الذي يشمل بريطانيا والسعودية مع وقف الحرب على الحدود الشمالية وإخراج القوات المصرية من اليمن “140ص. لقد استمرت المعوقات ضد الكفاح المسلح والجبهة القومية من جماعة خمر ومواقف الضباط البعثيين ضد الحركيين والجبهة، وكانت علاقة الجبهة بالمخابرات المصرية متوترة بسبب نشاط المخابرات المصرية داخل أوساط الجبهة واستقطاب بعض قيادات الجبهة من أجل التحكم والتأثير بمسار الثورة، لهذا يرى المؤلف أن التوحيد القسري محاولة من المصريين للتحكم بمسار الثورة وفق حاجات الأمن القومي المصري، وعلاقاتها الدولية. “لهذا تحركت الجبهة وتواصلت مع قيادة حركة القوميين العرب ببيروت من أجل التواصل مع الرئيس جمال عبدالناصر شخصياً لأخذ توجيهاته إلى أجهزته المختصة بوقف الحملات العدائية المدمرة ضد الجبهة القومية وقياداتها، وإعادة المساعدات المالية والعسكرية إلى ما كانت عليه، وتعديل مواقف الأجهزة ونظرتها لقضية الثورة في الجنوب، والتوقف عن دعم الترتيبات السياسية المضرة بأوضاع الثورة اليمنية عموماً”157ص. لا يخفى على القارئ أن الصراع بين البعثيين والحركيين يعكس ظلاله في العلاقة العدائية بين جبهة التحرير والجبهة القومية، وبالتالي فشل التوحيد بين الجبهتين، كذلك كان الدور السعودي محورياً في رفض أي توحيد للجبهتين على أساس الكفاح المسلح، لهذا من وجهة نظر المؤلف فقد نجحت هذه “القوى المرتبطة بخط المصالحة مع السعودية من تهيئة الظروف لانعقاد هذا المؤتمر الذي تمخض عن تشكيل منظمة التحرير التي تكونت من حزب الشعب، وحزب رابطة أبناء الجنوب، وهيئة تحرير الجنوب، التي يرأسها السلطان محمد بن عيدروس مع بقية السلاطين علي عبدالكريم، وأحمد بن عبدالله الفضلي، والسلطان جعبل بن حسين العوذلي”168ص. وهذه قوى مرتبطة بالعمالة للسعودية كما يرى المؤلف، لهذا “عاودت السعودية مرة أخرى نشاطها في لملمة هذه الأحزاب مع مجموعة من السلاطين، وذلك بتبني مؤتمر يجمع هذه القوى يعقد في مدينة تعز تستخدم فيه الأموال التي تقدمها السعودية لخلق الانقسامات في صفوف الثورة، وإحلال توازنات جديدة على حساب الجبهة القومية؛ لتتمكن هذه القوى من التفاوض مع بريطانيا على مستقبل المنطقة وترتيب الأوضاع فيها”168ص.