قبل ثلاثة عشر عاماً وفي مثل هذه الأيام تقريباً كنت أجلس إلى ثلة من الأصدقاء المثقفين والسياسيين عندما جاء صوت عبر الهاتف يخبرنا برحيله المفاجئ. وللحظات طويلة ظل الحزن مخيماً على رؤوس الجميع وكأنه الطير، ثم استأنفت دورة الحديث عن الخسارة الكبيرة التي منيت بها اليمن خصوصاً والحياة الفكرية والثقافية على ساحة الوطن العربي عموماً، وهي الخسارة التي تمثلت في غياب الأديب الكبير والشاعر الفيلسوف والعصامي الموسوعي الفقيد عبدالله البردوني، وهو الأديب الذي فاقت شهرته حدود وطنه إلى آفاق واسعة سواء في دواوينه الشعرية أو في مؤلفاته التي أثارت جدلاً واسعاً، وحركت المياه الآسنة في مجرى الحياة الثقافية العربية، وكذلك في قصائده المؤثرة التي تحولت إلى منشورات سياسية، كما وحلقت قصائده في سماء مهرجانات الشعر العربي في عواصم الثقافة كالمربد في العراق والبتراء في الأردن ونواكشط في المغرب، فضلاً عن القاهرة ودمشق وصنعاء، وكأن تلك الدرر عناقيد من الغضب والسخط للحال الذي وصل إليه العرب وهم يغطون فوق براميل النفط كالمستعمر السري الذي يسرق هذه الثروات دون أن ينبتوا ببنت شفة!!
وحسناً إذ يتداعى المثقفون - وفي غياب المؤسسات الرسمية - لإحياء ذكرى فقيد الوطن الكبير الأستاذ عبدالله البردوني وإعادة التعريف بتراثه الإبداعي في شتى الميادين، ومحاولة إعادة نشر إنتاجه حتى يصل إلى العامة من الناس وكذلك الجيل الجديد ممن يجهلون عطاءات هذا الرجل وإبداعاته.
فلقد تابعت عديد من فعاليات هذه المناسبة بما في ذلك إطلاق مبادرة تستحق الدعم وهي: تحويل منزله إلى مكتبة ثقافية تخلد اسم الفقيد وتضم بين جوانبها جميع مؤلفات الأديب ومخطوطاته التي لم تر النور حتى الآن، فضلاً عن مقتنياته التي خلفها الفقيد، مع علمي بزهد الرجل حيث عرفته لبعض الوقت وأنا أخط له بعض المسابقات الأدبية التي كان ينشرها في صحيفة (الثورة) منتصف ثمانينيات القرن المنصرم وكذلك ما كان يمليه عليّ من مقالات أسبوعية لنشرها في مجلة “الكفاح العربي” البيروتية.. وقد كان الفقيد بسيطاً في تعامله مع من حوله حيث كان لا يتردد في توجيه التقويم والانتقاد، كما لا يكف عن إطلاق النكات والقفشات والتندر حتى في أكثر اللحظات قساوة.
ومن حسن حظي أن رافقته لأول مرة ضمن قوام وفد الأسبوع الثقافي اليمني إلى سلطنة عمان إبان تلك الفترة.. وكان – كعادته - متألق الذهن حاضر البديهة وهو يرحب بالحضور في إحدى الأمسيات الشعرية وعشاق أدبه يتوافدون إلى هذه الفعالية.
وما إن بدأ مسترسلاً في قراءة قصائده حتى دوى التصفيق إعجاباً بعبقريته الشعرية وقدرته الفذة على ترجمة ما يعتمل على أرض الوطن من محيطه إلى خليجه برؤية ثاقبة وفكر متحرر وصراحة متناهية.
ولعلي أتذكر في تلك الأمسية الشعرية الزميل الإذاعي عقيل الصريمي الذي كان إلى جوار الشاعر يقرأ له استفسارات الحاضرين عن شتى القضايا، وفي إحداها وبدلاً من قراءة الاستفسار ناول الورقة مباشرة إلى البردوني، فما كان من البردوني إلا أن علق ضاحكاً بصوته الأجش: جبناك يا عبدالمعين تعين... فخرّ الجميع بالضحك.
وقد نوهت إلى هذه الجزئية في انطباعاتي المنشورة وقتها في مجلة (معين).. وعرفت فيما بعد أن تلك القفشة الصحفية استرعت انتباه الأستاذ الكبير عبدالله البردوني الذي أشاد بها في حوار شهير له تحت عنوان “الأدباء يستحقون..” وكنت ولاأزال أعتز بتلك الشهادة التي – لا أنكر – أنها أثارت عليّ حسد البعض من رفاق صاحبة الجلالة وقتها.
ومما أتذكره عن الشاعر الكبير عبدالله البردوني وبالذات عند تغطيتنا لفعاليات مهرجان المربد الشعري ذات مرة في بغداد وقد حضر شاعرنا الكبير إلى القاعة وكان كعادته بسيطاً في ملبسه ومظهره كذلك، الأمر الذي ترك بعض التمتمات في القاعة خاصة وإن الشاعر لم يكن معروفاً بما فيه الكفاية حتى ذلك الوقت.
وما إن اختتم شاعرنا قراءة قصيدته الشهيرة”أبا تمام وعروبة اليوم” حتى هرع إليه الحضور وفي مقدمتهم كبار الشعراء العرب وبينهم نزار قباني والبياتي يقبلون رأسه إعجاباً بتلك الرائعة التي أعادت للشعر العربي هيبته وصولجانه.
وبمعزل عن تراث الرجل الفكري والثقافي الذي أثرى به حياة اليمنيين والعرب بزاد المعرفة والإبداع، فإن للبردوني السياسي رؤية تحليلية عميقة في سبر مسارات الأحداث وتحديداً تلك التي عصفت باليمن منذ مطلع القرن العشرين، وذلك عبر رصده لمجمل تلك التطورات والتي ضمنها كتابه (اليمن الجمهوري) والذي رصد فيه بلغة بسيطة ورؤية تحليلية ثاقبة مجمل تلك المتغيرات والتحولات التي عاشها اليمنيون والتفاعلات الإيجابية والسلبية لمتغير الثورة في واقع محلي وإقليمي مغرق في التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
وحيث يعتبر هذا الكتاب مرجعاً لفهم تعقيدات المشهد اليمني في تلك الفترة إلا أنه لم يخلُ من انتقاد البعض وبتأكيدهم ابتعاده عن منهج البحث العلمي الأكاديمي، حيث ردّ عليهم بقوله: “إنني وثقت للحظة التاريخية بعين الرائي، وليس بعين الباحث الأكاديمي..”.
كما لا يفوتني هنا الإشارة إلى تفرد رؤية البردوني المبكرة للأحداث والتطورات حتى قبل أن تقع وهو يتنبأ بقيام الوحدة قبل أن تتحقق بنحو عقدين من الزمن، وكذلك في قراءته لأنساق تطورات الأحداث المؤسفة التي بدت تلوح بين الأفرقاء في القيادة السياسية إثر قيام الوحدة اليمنية وهو يردد: (أي العليين يخصي علي!).
ترى ماذا كان سيقول لو أنه كان يعيش بين ظهرانينا وهو يشهد هذه المشاحنات وكلهم يشحذون سكاكينهم لا لكي يخصوا بعضهم البعض، ولكن لكي يخصوا الوطن بأكمله!!.