كنا وما زلنا ننتقد المركزية الأوروبية بوصفها حالة تغوّل على وشائج الصلة الطبيعية بين الثقافات الإنسانية، لكن الأوروبيين ليسوا الوحيدين في هذا الباب، فلدينا أيضاً نزعتنا المركزية (العربسلامية) المفتونة بالأمجاد البعيدة والماضي التليد، ومن مظاهر هذه النزعة الادعاء بأن فلسفة “ديكارت” الشكيّة مُستقاة بالجُملة من نظرات الإمام محمد بن محمد حامد الغزالي صاحب “إحياء علوم الدين”، والمعروف بتقلباته في معارج الفكر والرؤى، كما تتبدّى بوضوح في مؤلفه الهام بعنوان (المُنقذ من الظلال)، لكن هذا الاستنتاج مشمول بقدر كبير من التسرع، بل الاستيهام. فالأصل في شكيّات ديكارت أنها نابعة من المنطق البرهاني الجبري الذي يقيس السؤال بالقدرة على الجواب الناجز والموصول بالمعقول والمرئي والملموس، فيما كانت معارج الغزالي وترحلاته في الفكر نابعة من عقيدة إيمانية، بالغيب، والماوراء، والذائقة معاً؛ فالغزالي بقدر حضوره النافل في الأرسطية الإغريقية واستتباعاتها، إلا أنه كان أيضاً من علماء الكلام والتصوف والشريعة ، ولم تكن شكيّاته وحيرته الفلسفية نابعة من ترجيح سابق للعقل والمنطق والبرهان، بعكس ديكارت. المزاوجة الاستناسبية بين الغزالي وديكارت تذكرني بمحنة طه حسين عندما نشر كتابه (في الأدب الجاهلي)، وكيف أن مُتهميه نسوا أو تناسوا أن طه حسين من كبار مؤصلي الإسلام بشقيه التاريخي والعرفاني، وكيف أن تساؤلاته واستسباراته لم تكن نابعة في الأصل من مرابع كتلك التي كان فيها الفيلسوف البرهاني زكي نجيب محمود. هذا مثل واحد من « خرابيط» اجتهادات المجتهدين المركزيين الذين لا يرون أمامهم إلا الأنا المُتطيِّرة ، وسنرى مثل هذه المقاربات في مجال آخر، وتحديداً بين السرياليين الأوروبيين والمتصوفة المسلمين، الذين أدّعى “أدونيس” أنهم من نسيج واحد، ولكن بنزعة مركزية أوروبية ترتقي بالسريالي إلى مصاف الصوفي المُتروْحن، فيالها من فداحة. [email protected]