يقف الصدق مذهولاً من فرط دهشته حين يرى أولائك الخالدين الذين جاوز صدقهم في عظيم فعلهم معناه فلا يملك أمام فرادة هذا النقاء سوى الانحناء لهم ومغادرة أوطانهم العظيمة باحثاً لنفسه عن مواطن أخرى ما زالت تستدعي حضوره كي يجري عليها الاختبار ويمنحها ما تستحقه من التقييم والتقدير ... تلك المواطن الأخرى التي ما زالت بحاجة ضرورية للخضوع لعملية الاختبار هي نحن الأحياء الذين تُركوا في سراديب أرواحهم المعلقة بين الوهم والحقيقة وهم لا يعلمون مدى ما توصل إليه صدقهم في تفاعلهم مع كل شيء في هذه الحياة ... وأما المواطن الأولى فتبارك الرحمن الذي خصهم بالتعريف من عنده وميزهم بجلال صدقهم مع خالقهم ومع أنفسهم ومع دينهم ومع أوطانهم ومع قضيتهم ومع الإنسان فسماهم ( الشهداء ) . إن كان ثمة ما يجب وما يستحق الاحتفاء به في أعياد ثوراتنا المجيدة فذاك لن يكون سوى وجوب الاحتفاء بأولائك الشهداء الخالدين في ذاكرة التاريخ الذين ضحوا بأنفسهم وقدموا أرواحهم الغالية فداء لهذا الوطن اليمني الكبير ، وأرادوا بصدق فعلهم الجليل تأسيس ملامح التكوين والنشوء والارتقاء للإنسان فيه . أولائك الذين كانوا وما زالوا وسيظلون بما قدموه ويقدمونه لنا الوطن والعيد معاً . الشهداء فقط دون سواهم من البشر عندما يتخذون القرار يجعلون من الموت ميلاد الحياة وعنوان الخلود ويرسمون بدمائهم الطاهرة الزكية كل المسارات المؤدية إلى الاستشهاد من أجل نيل شرف الشهادة ... والشهداء فقط عندما يعشقون معناهم يجعلون من عشقهم آية للتجلي والتوحد مع مصيرهم المقدس في رحلتهم نحو السمو والعلو والشموخ السرمدي ، وهم لأجل هذا كله لا يمارسون طقوس الوداع الحزينة المؤلمة المبشرة بحلول ساعة المغادرة والرحيل لأنهم يعلمون أنهم إن ماتوا فإنهم لا يموتون أبداً ، فهم من خاصة البشر كلهم الأحياء الخالدون الذين لا يرحلون ولا يغادرون ... فإن لم تكن أعيادنا خالصة لهم ، يا الله رحماك ... فمن سواهم تُراهُ يستحق منا أن نحتفي بهِ وبأمجاده الخالدة في هذه الأعياد ؟؟!! الاحتفاء بأعياد الثورات اليمنية العظيمة يجب أن يكون احتفاء جليلاً معبراً عن صدق الوفاء والعرفان ورد الجميل لأولائك الشهداء الأبرار ، وذاك فقط ما أسميه عيداً وطنياً ثورياً حقيقياً ... والوفاء لهؤلاء لا يكون إلا بإنصافهم وإنصاف تاريخهم البطولي المشرف وما قدموا فيه من تضحيات كبيرة من أجل هذا الوطن اليمني العريق في التاريخ والحضارة والوجود ... ويبلغ الإنصاف مبلغه ويعانق غايته عندما يأتي الدور علينا نحن الأحياء لنبرهن لهم على وفائنا الصادق وتقديرنا وشكرنا لكل ما قدموه لأجلنا ، وليس أمامنا من طريقة للتعبير عن ذلك الوفاء إلا بأن نكون على قدر كبير وواع من المسؤولية في كل شيء ، وأن نعمل بصدق على تحقيق كل الأهداف النبيلة السامية التي حددتها الثورات وقدمت لأجلها قوافل من الشهداء هم خيرة أبنائها وأحسن وأجمل وأعظم ما فيها ، وتجسيدها بصورة حقيقية على أرض الواقع ، وأن نسعى جاهدين إلى تأسيس معالم المستقبل ورسم ملامحه شكلاً ومضموناً وفق استراتيجية منهجية قادرة على الوصول بنا إلى المستوى الذي يضمن لنا حضورنا الفعلي الحقيقي في المسارات الإنسانية كافة ... في هذه الحالة يكون وفاء الأحياء قد استوفى ما عليه من الفعل وحقق لأولائك العظماء الغايات النبيلة التي سعوا إلى تحقيقها والوصول إليها ، وأما إكرامهم فإنما يكون بإعطاء كل ذي حق حقه بإكرام من تبقى من بعدهم من أهلهم وذويهم الواجب تكريمهم في كل عيد ، وفي كل زمان ومكان فمن قدم نفسه فداء ليمنحك في حياتك كل شيء يستحق منا أن نجعله عيدنا وكل أعيادنا وكل أيامنا ويستحق منا أن نقدم لهُ كل شيء أيضاً ، وإن كان الفارق في العطاء لا يخضع للمقارنة بأي حال من الأحوال فشتان بين من يقدم لك نفسه ليهبك نفسك ويمنحك وطناً وبين من يحاول رد الجميل بشيء قد لا يصل إلى الدرجة التي تستحق الاحترام . بألم كبير ليس أمامي سوى التوجه إليك يا إلهي طالباً منك العفو والمغفرة على الذنب الكبير الذي ارتكبناه بحق أولائك الشهداء العظماء الذين عندما قرروا لأجلنا ولأجل هذا الوطن أن يكونوا فكانوا لكننا خذلناهم بعجزنا ولم نكن حتى هذه اللحظة بحجم آمالهم الكبيرة ، ولم نقدم لهم الوطن والإنسان اللذين أرادا أن يكونا بل وما زدنا إلا أن تخلينا عن أنفسنا وعن هذا الوطن الذي تركناه عند أول منعرج على الطريق وحيداً يواجه مصيره بنفسه ... ولم يعد منتصباً أمام ناظري الآن سوى ذاك الشاعر العربي العظيم أبي الطيب المتنبي وكأنه يوجه الخطاب بشعره منتقداً ساخراً منا ، وفي ذات الوقت يقف منصفاً لأولائك الذين لم ننصفهم ولم نجعلهم فرحة أيامنا وكل أعياد ثوراتنا المجيدة الخالدة ... حين قال : عَلَى قَدْرِ أَهلِ العَزمِ تَأتِي العَزائِمُ وتَأتِي عَلَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارِمُ وتَعظُمُ في عَينِ الصّغِيرِ صِغارُها وتَصغُر في عَينِ العَظِيمِ العَظائِمُ لقد كانوا حقاً هم العظماء الكرام الأخيار الذين ضربوا لنا وللتاريخ بصدق فعلهم أروع الأمثلة الدالة على عزيمتهم القوية وهمتهم العالية وتضحياتهم الغالية الكبيرة ... في حين لم نكن نحن سوى أولائك الصغار الأقزام الذين نكسوا من علو تلك الهامات الخالدة السامية بالتخاذل والهوان رحم الله المناضل الشهيد إبراهيم الحمدي الذي كان لنا العيد والوطن معاً لكننا للأسف خذلناه ولم نكن نعلم أننا بخذلاننا لهُ إنما نخذل أنفسنا وهذا الوطن من حيث لا ندري ولا نحتسب ، ونسأل الله الرحمة وواسع المغفرة لكل الشهداء الأبرار في هذا الوطن الجليل وغيره من الأوطان . [email protected]