رفع “الحاج عبده حسن” شعاره الطامح : “شبر مع الدولة ولا ذراع مع القبيلة” قبل أكثر من ستين عاماً ، - أي قبل ثورة 26 سبتمبر ، قضى بأن المخرج للبلاد والعباد بأن يكون معنا :“دولة” ، وبس . لم يكن عبده حسن وحده من رفع هذا الشعار، بل ومعه أهل قرية “ قُبع الضاع” - الأعروق ، والكثيرون ممن هاجروا ، واشتغلوا في البحر وعلى متن السفن ، فرأوا عوالم وحيوات مختلفة تفصل عن حياتنا بمئات السنين ، مما زاد حماسهم واعتصامهم بحبل “عليكم بالمدن ولوجارت” فالدولة اقترنت في مفاهيمهم بوجود المدن ، وقوانينها ، وقيم المواطنة .. ناضلوا بعرق جبينهم ، ومدوا الثورات بتبرعات مادية ومعنوية لدعم مشروع الدولة الذي سيتحقق عبر الثورة والجمهورية ، انضم الى صف الحلم ذلكم “المُعَدن” الإنسان القادم من جبال الشمال الى مدينة عدن . ** “الدكة ” وعمالها من كل بقاع اليمن جميعهم عبده حسن يصحون وينامون على الحلم بشقف دولة وشقف مدينة ، وبالمثل قانون ونظام ، وأن يصبح هذا الجبلي مواطناً ، ولا يكنى ب“الجلف” وكانوا كلما توغلوا في شوارع عدن ومقاهيها وانغمسوا في صباحاتها ومساءاتها ،وتوشوا بملوحة بحرها والميناء ، وعرفوا معنى التعايش مع الأجناس والأديان الأخرى ، بل وتزوجوا من البهرية ، والهندية والأثيوبية ، والصومالية ، والفارسية وو..الخ ، كلما وسع حلمهم فلم يعودوا يعترفون بما تيسر من شقف الدولة والمدينة ، أو بقياس “الذراع” و “الشبر” ، بل تجاوزوا كل القياسات والمسافات بحلم أوسع من سماء وأبعد من أرض : حلم الدولة .. ** وبقدر وسع الحلم كان الخوف عليه أكبر من أن يصيبه مكروه ، ولكي يظل الحلم قريباً من أوردة القلب ، ولاينسى ولايضيع في الزحمة وحرارة الشمس الشديدة ، اطلقوا اسم دولة على بناتهم ، مثلما فعل عبده حسن .. لقد كانوا يدركون بفطرتهم وباللاشعور الجمعي ، أن “الدولة امرأة” و“المدينة انثى” من مشقر ، وريحان وجدول ماء ، ومقهى ، وفاترينا تبيع “الجونلة”، والبلوزة ، والعطر الباريسي ، المدينة مدرسة بمناهج عربي وانجليزي ، بمستشفى نظيف ، وشارع مكسي بالأشجار.. المدينة سينما ومسرح ، ومذياع ونشرة اخبار وأغانٍ لفائزة أحمد ، ونجاة وحليم وعبد الوهاب ، وبا مخرمة ، والقعطبي ، ..إلخ . ** من لا يعرف دولة ؟ أتذكر دولة ، ووجهها القمحي الجميل ،وابتسامتها بالسن الذهبي ، وشعرها الأسود الطويل والمفروق من الوسط منسدلاً على ظهرها ، وعليه مقرمة جارجيت خفيفة ، واتذكر زنة “الشنن” وزنتها الوردية المكشكشة أيضاً والسروال الشرلستون ، وحامورا الأظافر الحمراء .. دولة المرأة الأنيقة ، الضاجة بالحيوية والبهاء ، لم يضق مفتى ديار الأعروق والمدينة بتطبيق حد وشرع الله في أناقتها. دوووووووووووولة .. مشروع حلم بداية القرن العشرين ، حمله الآباء والأجداد ، واشتغلوا عليه بتفانٍ وبتقديس .. ** في الألفية الثالثة ، ماذا عن عبده حسن ، وماذا عن فلذة كبده “دولة ” ؟ ماذا عن الحلم الذي تجاوز حدود السماء ؟. رحلت دولة قبل أن تلج الألفية الثالثة ،ماتت وهي في ريعان شبابها ، دفنت مع سنتها الذهبية والأكثر سحراً تلك البسمة التي لا تنساها قرية “قبع الضاع”، ولا حي المدينة في تعز . ماتت دولة بولادة متعسرة –كما قيل - مخلفة أطفالاً كُثراً ، وحسرة أب يرى دولته تموت بكل سهولة وعبث ، ولسان حاله يقول “لو كان تحقق شقف دولة ، لما ماتت دولة بهذا البخس” . عبده حسن ،أيضاً ، رحل بعدها بسنوات ، بعد أن اثقلته الشرائع ، والقلب المفلوج على حلم دولته ومدينته يتلاشى ويموت بهذه العبثية الطافحة ..غادر عبده حسن بلا دولة ، سوى دكان صغير ، وبيت متواضع ، وأولاد بلا عبده حسن ، وأحفاد أيتام من أمهم دولة . ** اليوم وفي الخمسين من رائحة حلم الدولة ، والمدينة والمواطنة ، ماذا سنقول لعمنا عبده حسن ودولته ومشقر مدينته تعز ، التي تمردت على ثور وبندق عكفة القبيلة ومشيختها وعمامة الفقيه ، فاقتص منها بنفس أدوات تمردها ؟. كيف سيرى عدن وهي تنتهك في وضح النهار من نفس القتلة وبسيف فتوى السحرة : ب«ألا تطأ أقدامهم عدن ، إلا وقد فرشوا طرقاتها بدم الشيوعيين». وصنعاء ، وآهٍ من صنعاء ، عاصمة دولته التي أصبحت مأوى لكل القتلة وتباريهم المهووس بضخ كم السلاح وكم الضحايا ، وكم شيخ وجنرال يقصقصونها ويفصّلونها على مقاس قريتهم، وأهل بيتهم .. فقد قطعوا عهداً وأيماناً مغلظة لأجدادهم من نسل قحطان وعدنان ، بألا تكون صنعاء مدينة في يوم من الأيام ، ولن تبارح حوافر 1948 ، بل وسيفخخون كل المدن بمسلسلات استباحات ثم «يذرقون» عليها بنشوة الجوع التاريخي. ** هم يقسموننا بين زمنين ماقبل عبده حسن ودولته ، وما بعدهما أي بين الظلام والنور ! خمسون سنة انقضت ، وأحفاد دولة كفروا بأمهم دولة ، وكفروا بألا يكرروا حلم جدهم . أحفاد الدولة بلا دولة ، بلا رصيف يحتويهم ، ولا مدرسة ، ولا جامعة ، ولا كتاب وأغنية .. الجميع مغلولون الى طعنات الجنبية ، وهي تخرج من غمدها بعنجهية بداوة الكهوف : نحن الشعب .. نحن الدولة . ** أنصار دولة عبده حسن ، خرجوا من ذهولهم المكرر والمكرور ، باكتشاف ، من أن “دولة لم تمت ميتة طبيعية بل اغتيلت ، بنفس جنبية وعكفة ما قبل 1948 ”ولذا فثورة الربيع في ميثاقها المقدس ستمنح دولة لقب “أم الشهداء” وسيدرج اسمها في سجل شهداء كل الثورات الماضية والآتية . ** منذ يومين ، وفي ذكراها الخمسين صحونا وقبر دولة قد اختفى .. قيل إن نجمها “الحمل” فقد أتى متنكراً وامتص رفاتها ، ولم يبق من أثرها سوى جزء من كفنها المهترىء معلقاً في “ضاحة بالرُباح” البعيدة ، ورسالة بتوقيع الحمل “ الشهداء جنتهم بطن الحمل ، ودولة من نصيبي ”. أخيراً : دولة تريد دولة .. فكيف تشوفووووا؟ هامش: وأنا أتجول في بعض مناطق اليمن ، خصوصاً المناطق التي سكانها مهاجرون ، وجدت الكثير من الجدات والأمهات الكبار يحملن أسماء : دولة ، ولاية ، أما بعد الجمهورية ، فحملت البنات أسماء مثل : جمهورية ، حرية ، ثائرة ، ثورة .. ولعل مناطق الحجرية أكثر من يسمون بهذه الأسماء . [email protected]