التقسيم الحالي للوحدات الإدارية في اليمن، يتصف بسمات عديدة إلا أن يكون إداريا .. هو تقسيم سياسي، سلطوي، نخبوي بامتياز ، باعتبار ان غاية التقسيم الإداري في أيما دولة خدمة مسارات التنمية .. على حين انه في اليمن لم يكن يستهدف غير إدامة بقاء السلطة الحاكمة حصرا .. منذ بوادره الأولى أثناء الحكم التركي وحتى المرحلة المعاصرة .. البواكير الأولى للتقسيم الإداري بدأت إبان حكم الأتراك في احتلالهم الثاني لليمن.. حينها جرى استحداث تقسيم إداري ثلاثي هرمي، قمته اللواء، وقاعدته الناحية التي تتكون من عزل وقرى، فيما القضاء الذي يتألف من عدة نواح كان في وسط الهرم.. وقسمت اليمن الى ثلاثة ألوية صنعاء وإب والحديدة.. ورغم انه لم تطرأ زيادة على الثلاثة الألوية طيلة احتلال الأتراك لليمن الذي دام سبعين عاما .. غير انه كثيرا ما كان يطرأ تغيير على القضاءات والنواحي ولأغراض عسكرية فقط فرضتها حروب الأتراك ضد حركات التحرر الوطنية.. وبعد أن آلت مقاليد الحكم الى الإمام يحيى اضاف ثلاثة ألوية الى الثلاثة السابقة باستقطاع واجتزاء قضاءات ونواح من لواء لآخر، دونما معايير محددة ولا غاية إدارية تنموية، إنما لتدعيم نظام حكمه وتوفير مناصب لأبنائه بوضعهم على رأس الألوية. الحال ذاته تكرر في عهد ابنه الإمام احمد الذي استحدث لواءين آخرين هما رداع والبيضاء .. وحتى الآن لم يُعرف سبب وجيه لهكذا استحداثاً، ويمكن للمرء ان يخمن أيما سبب الا ان يكون تطويراً واصلاحا إداريا، خاصة والإمام أحمد قاوم بشدة كل رغبة اصلاحية، بل انقلب على النظام الإداري العثماني الحديث نسبيا لصالح ثيوقراطية ساذجة درج عليها وأباه . بعد سبتمبر62م، استمر غياب الرؤية فيما يتصل بالتقسيم الإداري، وباستثناء دخول مسميات جديدة كالمحافظة عوضا عن اللواء، وازدياد عددها وعدد القضاءات والنواحي، الا ان تلك الزيادة وتلك التقسيمات خلت من أيما معايير علمية... وفيما شهدت تلك المرحلة سيطرة للقوى التقليدية المشيخية على الهرم الإداري للدولة، بُعيد ثورة سبتمبر مباشرة.. إلا ان دخول القوى العسكرية الأمنية حلبة المنافسة على ذات المربع، بدأ مع تسلم ابراهيم الحمدي مقاليد الحكم منتصف سبعينيات القرن المنصرم، فرغم النزعة الحداثية للرئيس الشهيد، الا ان ما يؤخذ عليه هو فتحه الباب أمام تغول القوى العسكرية، لتأخذ بالتوسع والتمدد حتى اصبحت لها سيطرة شبه كاملة بلغت مداها في عهد الرئيس السابق علي صالح ولتحتل المناصب الأولى في الوحدات الإدارية ، محافظات ومديريات .. فكان منصب المحافظ حكرا على ضباط الجيش، فيما مدراء المديريات من نصيب ضباط الأمن في الأعم الأغلب..وباستثناءات محدودة فرضتها المتغيرات السياسية من حين لآخر.. ويتضح الأمر جليا حين نعرف انه كان هناك قطاع في وزارة الداخلية يُعنى بشؤون الوحدات، ويتولى تعيين مدراء المديريات، ولايزال حضور ضباط الأمن على رأس الوحدات الادارية (المديريات ) طاغيا حتى الوقت الحاضر. القوى العسكرية الأمنية التي لم تستطع الانفراد بحكم البلد، بسبب طبيعته التقليدية، دخلت في تحالفات مع القوى التقليدية المشيخية، في هيمنتها على النظام الإداري وفرض وجودها على هرميته التراتبية .. وتالياَ انضمت لهما شريحة جديدة، هي فئة التجار، التي فرضت نفسها في انتخابات المجالس المحلية، لتحتل مواقع الأمين العام فيها، في إعادة انتاج للقوى الانتهازية.. ولتستغل مواقعها في زيادة ثرواتها عبر التلاعب بالمناقصات والمقاولات في الوحدات الإدارية. النظام السابق لم يكن يهتم بغير إدامة بقائه على كرسى السلطة، ولم يكن يتوخى من التقسيم الاداري غير أغراض سلطوية، فكانت عينه على القوى العسكرية الأمنية والمشيخية والرأسمالية المتماهية معه والمستفيدة منه، وغايته رضاها، لا رضا المواطن .. وفي سبيل ذلك استحدث تقسيمات إدارية أخرى ومديريات جديدة لتوفير مناصب لها، حتى بلغ عدد المديريات 333، فيما المحافظات بلغت 21 ، بعضها استحدثت لدواع سياسية ليس إلا ، وفي كل الحالات غابت الرؤية الإدارية والمعايير العلمية في التقسيم الإداري الذي يأخذ بالاعتبار العوامل السكانية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية للوحدات الادارية... حدث ذلك في شمال اليمن، فيما جنوبه عاش حالة شبيهة ، فالاستعمار البريطاني لم يكن مهتما بغير عدن، على حين ان بقية مناطق الجنوب سابقا توزعت على مشيخات وسلطنات تربو على العشرين وإن كانت الجبهة القومية التي وحدت تلك السلطنات والمشيخات، واستحدثت نظاما إداريا افضل مما للشمال، بيد ان تجربة الشمال السلبية في التقسيم الإداري هي التي أصبحت طاغية على اليمن شماله وجنوبه بعد الوحدة. ورغم ان دستور الوحدة نص على وجوب ان التقسيم الإداري لا يتم الا بقانون.. الا ان هذا القانون لم ير النور حتى الآن.. وكانت وزارة الادارة المحلية شكلت لجنة لإعداد مشروع قانون للتقسيم الاداري منذ سنوات قليلة، الا أنها لم تأتِ بنتائج، شأنها شأن لجان غيرها سبقتها لمعالجة ذات المشكلة.. لغياب الإرادة السياسية حينها التي لم تكن ترغب في تقسيم إداري سليم وكانت القضية خطا أحمر يحظر على الجميع المساس بها او الاقتراب منها . غلبة الحس الأمني السلطوي على الإداري أثر كثيرا على عملية التنمية في الوحدات الإدارية، لتغليبه همّ الحفاظ على السلطة على تلبية حاجات المواطنين.. تماما كما كان الأمر في عهد الائمة .. مثلما أن الاختلالات في التقسيم الاداري للوحدات الإدارية أثرت أيضا على التنمية المحلية بل اصابتها في مقتل، إذ ان كثيراً من المديريات أضحت عاجزة عن القيام بأعباء التنمية، فمعظمها لا تتوافر على كتلة سكانية وانشطة اقتصادية كافية، وبالنتيجة وعاء ضريبي، ومورد مالي كاف يدعم خطط وبرامج التنمية.. فضلا عن أن عدم مراعاة النواحي الاجتماعية والجغرافية عند ضم عزل وقرى من مديرية لأخرى، أضحى عائقا امام تواصل الناس وتسهيل أمورهم.. وعوضا ان يخدم التقسيم الاداري مسارات التنمية، إذا به احد اهم معوقاتها.. الآن ونحن مقبلون على حوار وطني شامل، والنظام الاداري واعادة صياغته على رأس محاوره، وسواء ترشح عن المؤتمر الأخذ بالنظام الفيدرالي، والانتقال من الدولة البسيطة الى المركبة، او الاستمرار في تعزيز اللامركزية الادارية والمالية، فإن التقسيم الإداري يجب ان يكون المقدمة لإصلاح النظام الإداري، على أسس علمية تخدم مسارات التنمية لا تعطلها.. وليتم تغليب الاداري على الأمني، وازاحة القوة الانتهازية من هرمية الوحدات الإدارية وفق قانون للتقسيم الإداري يأخذ بالمعايير العلمية.. فتلبية حاجات المواطنين وتسريع وتيرة التنمية المحلية ينبغي ان تكون لها الأولوية في أيما نظام سياسي وإداري. رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=460299887342425&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater