يعتبر موضوع التقسيم الإداري، والمركزية من القضايا المحتدمة في مجتمعنا اليمني وهي من المشكلات التقليدية المعيقة للتنمية، والمدمرة للموارد البشرية والمالية. وقد تناولت هذا الموضوع باكراً في أكثر من صحيفة، مبيناً مختلف جوانب الضعف والإعاقة في هذا الأمر وانعكاساته التنموية، ونظراً لأهمية الموضوع، وحيويته الذي أصبح مثاراً في الوقت الراهن سأعيد مناقشته مرة أخرى على الصحيفة هذه التي كانت الوسيلة الإعلامية الأولى التي عبرت عن روح الثورة وفلسفتها ولا تزال تحتل الموقع ذاته. وقلت يومها إن البعض مازال يعتقد أن الوعي بأهمية التقسيم الإداري غائب والحقيقة أن الوعي بالتقسيم الإداري مغيب وليس غائباً وإلا لما وجد حراكاً اجتماعياً وسياسياً من هذا الموضوع الأكثر ارتباطاً بالتنمية وبالتطور الاقتصادي والاجتماعي المنشود، وبالمفاهيم الديمقراطية، ومشاركة المجتمعات المحلية في إدارة الشأن المحلي، ولما قامت السلطة المحلية بتجديد التقسيم الإداري من محتواه العلمي “وثيقة العهد والاتفاق” التي مثلت الاجماع الوطني، حددت وقتها المنطلقات الأساسية للتقسيم الإداري، بل إن التقسيم الإداري كان من أولويات قيام الوحدة، واتفاقية الوحدة، فقد وضعت أسساً واضحة لمفهوم الدولة الجديدة التي ترتكز على أسس ومنطلقات ديمقراطية جديدة. ولأن التقسيم الإداري العلمي يقوم على أساس رؤية المجتمع للدولة الجديدة وفقاً لمعطيات العصر، والتي تشترك المجتمعات المحلية في إحداثها، إلا أن هذا الأمر لا يزال غائباً فالسلطة التي ورثت الفكر الإمامي الكهنوتي في شكل بناء الدولة، وتوريث السلطة التي ما لبثت أن خرجت من عباءة هذا الموروث الإمامي بما فيه التقسيم الإداري، فالإمامة التي ورثت التقسيم الإداري التركي “الألوية والقضوات والنواحي” عملت فيما بعد على تجريده من محتواه ومضمونه الديمقراطي المحدود جداً، والذي كان يعطي الاقليم اليمني جزءاً من الصلاحيات النسبية، وإعادة انتاجه بما يلبي مصالحها، ويضمن سيطرة العائلة المالكة على زمام الأمور، وبعد أكثر من خمسين عاماً من عمر الثورة نجد أن التقسيم الإداري مازال أسير هذا الفكر الأسري المتخلف، والتوسع الارتجالي الذي حدث عبثاً في عدد من الوحدات الإدارية، جاء ليؤمن من رغبة السلطة آنذاك في السيطرة على المجتمعات المحلية، والحفاظ على ثوابت الدولة الوراثية، في الاستغلال والسيطرة والهيمنة والاستئثار بكل ثروات هذه المجتمعات . ونظام السلطة المحلية بمفهومه، وصيغته المركبة هو أحد مخرجات السلطة المركزية وأسلوبها في إدارة الأمور، والسيطرة على فكر وثقافة هذه المجتمعات، وكذا في إفراغ المشاريع الوطنية من محتواها الوطني الديمقراطي، ولهذا فالتقسيم الإداري المتوازن والذي يلبي حاجات ومتطلبات الناس لا يتحقق إلا في مناخات الأمن والاستقرار في ظل الشراكة الكاملة لطرفي العملية التنموية والبنائية والدولة والمجتمع وليس في ظل مناخات التوتر والانقسام والهيمنة، وعلاقة السلطة بالمحليات تقوم على أساس الرفض للآخر، ولفكر الآخر، ولوجود الآخر، ولهذا دأبت على تثبيت ما كان قائماً وسائداً في نظام الجمهورية العربية اليمنية سابقاً ، باعتبارها ثقافة وفكر السلطة، ولهذا لم تكن آبهة أو مهتمة بتقسيم إداري يلبي الاحتياجات الاجتماعية والتنموية، ولم تنظر إليه على أنه مشروع وطني يرتبط بنظام الحكم ومنطلقاته الديمقراطية، وإنما نظرت إليه على أنه إلحاق قرية بقرية.. أو منطقة بأخرى.. وإلحاق الوطن والمجتمع بسياسة وثقافة الأسرة الوراثية ، تحت مبرر إزالة آثار التشطير، ولهذا التقسيم الإداري يطرح نفسه وفي ظروف أكثر سخونة.. كما حدث في وثيقة “العهد والاتفاق” أو حالة الجدل المتصاعدة داخل مختلف الفعاليات الحزبية والمنظمات الاجتماعية المختلفة. وبينها وبين السلطة وفي محاولة منها لامتصاص حالة التذمر والغضب في هذا الإطار أعطيت حقن مسكنة في محاولة عبثية لإصلاح التشوهات في التقسيم الإداري حيث قامت باستحداث وحدات إدارية جديدة (محافظات ومديريات) تفتقر لأبسط المعايير العلمية ، رافق هذا الإجراء خطاب سلطوي مكثف يقدم المبررات من هذا الاستحداث موجبة بذلك أنها تستهدف إصلاح التشوهات الإدارية، وإحداث تنمية حقيقية داخل هذه الوحدات.. الأمر الذي حفز سكان بعض الوحدات الإدارية للمطالبة بالمثل كما أن هذه الإجراءات أحدثت تشوهات جديدة وأكثر خطورة من التشوهات السابقة، لأن هذه المعالجات لم تتم وفقاً لمعايير علمية بقدر ما تمت وفقاً لرؤية شخصية ضالعة في التجزئة الاجتماعية، والتشتيت الاجتماعي.. ولهذا ظل التقسيم الإداري يقدم نفسه على الدوام، وكلما تفاقمت الأوضاع السياسية زاد الشعور بالحاجة إلى تقسيم إداري جديد يستوعب المتغيرات المختلفة التي أفرزها التطور عالمياً. وتبرز الحاجة الماسة للتقسيم الإداري بصورة واضحة في أدبيات المعارضة، وعلى وجه الخصوص الحزب الاشتراكي والذي لا تزال تجربته في الجنوب في هذا الإطار تتحدث عن نفسها بقوة وفي مختلف مراحل حوار المعارضة مع السلطة، وحالياً مع الشعب المطالب بالتغيير وهي تجربة أكدت الأيام فعالياتها وحيويتها وديناميكيتها وبالمثل أنفرد حزب الرابطة بطرح مشروع للحكم المحلي وعلى أثر الوعي الذي تول متأثراً بهذه المشاريع جاء الخطاب السياسي والإعلامي للسلطة ليكشف عن قدرتها الفائقة على المراوغة وكسب الوقت وعدم فهمها وإدراكها لأهمية هذا الموضوع وعدم قدرتها أيضاً على التفريق بين التقسيم الإداري وبين التقسيم الانتخابي ومن هذا المنطلق فتجزئة اليمن إلى مناطق نفوذ للقوى الطفيلية الملحقة بالسلطة وثقافتها وفكرها الثوريين خيار فرضته تركيبة السلطة والتي قسمت البلد إلى خمس مناطق عسكرية يمسك بزمام كل واحد منها واحد من الأسرة الحاكمة، ولكي يصبح هذا التقسيم والتجزؤ مشروعاً قامت بمحاولة فاشلة لتحويل التقسيم الانتخابي والذي جرى على أساس سياسي إلى تقسيم إداري .. واعتبار التقسيم الانتخابي الحالي تقسيماً إدارياً واعتبرت أن الجمهورية اليمنية مقسمة دستورياً إلى “301” دائرة انتخابية ولهذا ينبغي أن تكون اليمن بالمثل مقسمة إلى “301” مديرية وهذا يتناقض مع أبسط المعايير العلمية فالتقسيم الإداري يقوم على أربعة معايير كما حددها قانون السلطة المحلية في المادة “ 6 “ والتي نصت على أن التقسيم الإداري للجمهورية يقوم على دراسات علمية لجملة من العوامل والمعايير وهي: أ.العوامل السكانية. ب.العوامل الاقتصادية. ج.العوامل الاجتماعية. د.العوامل الجغرافية والطبيعية. وهذه المعايير يمكن أن تكون أساس أي تقسيم إداري حقيقي، ونقاط التقاء مع الكثير من الفعاليات السياسية والوطنية.. وهنا يبرز الفرق بين التقسيمين الانتخابي والإداري، فالأول يقوم على معيار واحد وهو سكاني والثاني يقوم على المعايير الواردة أعلاه كاملة. والتقسيم على الأساس الانتخابي كان خياراً مطروحاً بقوة على اللجنة التي شكلت حينها للتقسيم الإداري وهذا يعني أن اليمن ستتحول إلى وحدات انتخابية محدودة وإلى مجرد مناطق نفوذ لممثلي هذه الوحدات في البرلمان، والذي أغلبهم يمثلون لوناً سياسياً واحداً، فمحافظة تعز مثلاً بمساحتها المحدودة جداً سيكون نصيبها في هذا التقسيم “39” مديرية، وسيكون طبقاً لذلك مكونات كل مديرية فيها مجموعة من المساكن وبين مساحات واسعة تصل إلى سدس مساحة اليمن كالمهرة مثلاً والتي ستذوب فيها المديريات لتصبح مديريتين فقط، وهذا غير ممكن لأن الناخب الذي يريد الوصول إلى مركز الدائرة يريد ساعات كثيرة للوصول إليها إن لم نقل يوماً كاملاً، أو التنقل بطائرة الأباتشي بين مراكز الدائرة ولجانها. كما أن التقسيم الإداري وفقاً لهذه التقديرات تم صنعها في الدائر ة الانتخابية من قبل ممثلي هذه الدوائر وفروع الحزب الذي ظل حاكماً بهذه الطريقة، وهذا يؤكد أن التقسيم الإداري لم يتبلور بعد كمشروع وطني عام لأنه لم يأخذ بمبدأ الحوار السياسي، ولم يستوعب مختلف الرؤى والتوجهات الوطنية. والتقسيم العلمي يتطلب أولاً تطوير النظام الانتخابي، ورفع مستوى وعي الناس من هذه القضية، وخلق شراكة فاعلة معهم. وجرت محاولات متعددة من قبل بعض مسئولي وزارة الإدارة المحلية لتعديل مسار التقسيم الإداري لخدمة حركة التطور والتنمية، ولكنها رفضت. ونظراً للمتغيرات التي حدثت في البلاد على أثر ثورة الربيع اليمني، واستنهاض الوعي الاجتماعي المطالب بالتغيير ينبغي أن يعاد النظر في ذلك بتجردو موضوعية، وبمشاركة جميع الفعاليات السياسية والوطنية، وأن يعاد النظر في طبيعة هيكلة البلد بصفة عامة وعادلة وعلمية، فهناك مناطق بحكم الوعي القائم والثقافة السائدة والسيطرة القبلية تشعر بالقوة والتفوق والسيادة.. بينما أخرى ارتبطت بالفكر والثقافة المدنية، تشعر بالضعف والدونية، وأصبح الوعي مرهوناً بهذه العقلية المتخلفة، ولهذا لابد من البحث عن مسميات جديدة، ويستحسن أن تكون هذه المسميات تاريخية قديمة.. لكي يشعر المرء المنتمي إليها بالشهامة، والكرامة، والاعتزاز بماضيه، وبدوره الحضاري والبنائي. وبهذه الطريقة ستولد مع هذه التسميات وعياً جديداً أو معايير تاريخية واجتماعية وحضارية، فالمشكلة الوطنية التي برزت على السطح بقوة هي المشكلة الجنوبية ومشكلة صعدة، وتعز وإب، وتهامة، وكانت لو استمر النظام السابق بغيه وعنفه وجهله، لكانت المشكلة قد تعقدت أكثر وبرزت مشكلات أكثر خطورة مرتبطة بالسياسة الطائفية والمناطقية والعشائرية الضيقة التي جسدتها السلطة الوراثية السابقة والقائمة منذ ما قبل الثورة اليمنية عام 1962م وحملتها طوال هذا التاريخ كثقافة في مواجهة الوعي الوطني الديمقراطي والمدني الحضاري المنتمي ليمن اليوم وحضارة اليوم، والتفوق الحضاري الأصيل، وأمام هذه المشكلات، والانفصام القائم في الوعي الوطني تبرز أمامها الأهمية الملحة لتقسيم إداري علمي يعتز الإنسان بالانتماء إليه، ويتفاعل مع تطوره وتحديثه، وضمن مشروع وطني ديمقراطي، ورؤية علمية مبنية على دراسات منطقية، وفهم للواقع واحتياجاته من التطور والتنمية. والنظام الفيدرالي الاتحادي هو المخرج لمشكلات اليمن، والنظام التاريخي في اليمن القديم كان فيدرالياً، وفي ظل هذا النظام سيولد وعياً وطنياً آخر، ودولة وطنية قوية تعتز بانتمائها الحضاري والديمقراطي والعصري، وبالتالي ستختفي النزعات المناطقية والسلالية، ونزعة الهيمنة والتطرف، وسيادة الفيد والإقصاء والإلغاء، وفي إطار هذا التقسيم ستكون الجمهورية مقسمة إلى أقاليم أو مخاليف أو ولايات، وهذه الوحدات الواسعة تتكون من وحدات صغيرة تكون بمثابة مكونات اقتصادية، وسوف يرعى هذا التقسيم الخصائص التنموية وتوزيع الثروات والمنافذ، وبصورة عالية وطبيعية، وأن تعتمد هذه الأقاليم على ثرواتها الطبيعية في مقوماتها التاريخية والسياحية في إحداث التطور الحضاري المنشود، وتخضع هذه المكونات الجديدة إلى إجراءات ديمقراطية.. ينتخب حكامها بطريقة ديمقراطية وعن طريق التنافس الديمقراطي الحر والمباشر وأن يكون لهذه الأقاليم حكومات محلية وبرلمانات قادرة على إدارة التنمية والتباينات الثقافية والفكرية في مجتمعاتها المحلية.. بالإضافة إلى حكومة مركزية تمسك بزمام القضايا السيادية وتعد القوانين وترسم السياسات الوطنية وتساعد في تحقيق الأمن والاستقرار. فالسلطة السابقة خلقت وعياً مشوهاً حول أن الحكم المحلي لا يصلح إلا في الدول المركبة وبلادنا دولة بسيطة لا يصلح لهذا لنظام اللامركزية السياسية وهذا غير صحيح فهناك دول بسيطة يقوم النظام الإداري فيها على هذا الشكل من اللامركزية، كبريطانيا مثلاً والإمارات العربية المتحدة.. المهم أن يتوفر في التقسيم الإداري مقومات النمو والتطور والاستمرارية وأن تكون الوحدات الإدارية متماثلة تاريخياً واقتصادياً وتنموياً وتكون مراكز هذه الوحدات حضرية وفيها حركة نمو ومؤسسات تساعدها على استنهاض واقعها وتطويره، ويكون هناك عدالة في توزيع الثروات، بحيث تكون قادرة على تحقيق التنمية والنهوض معتمدة على ثرواتها الطبيعية ومواردها المحلية، وأمام هذا التقسيم العلمي ليس مهماً أن ينقسم البلد إلى هكذا إقليماً أو وحدات أصغر.. المهم أن لا يشعر الإنسان بالاغتراب داخل بلده ووحدته الإدارية وليس مهماً أن يكون هناك إقليمان أو أكثر المهم أن يحقق التقسيم الإداري الجديد مقومات النمو والنهوض، بالإضافة إلى توفر المقومات الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية وبصورة عادلة وموضوعية. كما يتطلب التقسيم الإداري المثالي توفير البنى التحية، وهو مالم يتوفر في الدائرة الانتخابية والتي تتشكل في الغالب من تجمعات سكانية متناثرة تشكل سلسلة جبلية تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة والتنمية.. فلابد وأن تكون المديرية زراعية أو صناعية، أو تحتوي على ثروات مختلفة لكي تكون قادرة على الاعتماد على نفسها في تطوير مقدراتها التنموية والحضارية والأكثر أهمية أن تتوفر في الوحدات الأدنى والعليا البنى «المؤسسي والمرفقي والوظيفي».. إلخ. رابط المقال على الفيس بوك