النظام السياسي في بلادنا لا يزال يرتكز على كم هائل من الإجراءات والتعقيدات الروتينية التي كان يرتكز عليها النظام السابق في إدارة شئون الدولة، وهي إجراءات روتينية رتيبة ومملة ومحبطة تندرج ضمن موروثات الفساد الإداري والمالي والأخلاقي للنظام السابق، والتي لم تعد صالحة للأوضاع الجديدة، ولكن طبيعة المرحلة وتعقيداتها القت بظلالها على الحكومة الجديدة، ولا تجد مناصاً لها إلا التعامل بهذا الكم المدمر. نظراً لتعقيدات الواقع واحتياجاته الماسة لإعادة إنتاج الواقع وفقاً لاحتياجات ومتطلبات العصر. ومن ضمن هذه القضايا والتعقيدات والتي أصبحت أداة للهدم والتدمير هي اللامركزية الشديدة في إدارة الحكومة لشئون البلد، وجرت محاولات متعددة لتغيير هذا النظام بناءً على رغبة المجتمع الدولي الداعم لهذه العملية إلا أنها لم تسفر عن نتائج ملموسة وظلت عبارة عن نصوص قانونية يرتكز عليها الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي، وهذه القضية من القضايا التي حركت المجتمع للخروج بثورة شعبية سلمية فالمركزية الشديدة أوجدت نظاماً استبدادياً فردياً وولدت شعوراً بأن هذا النظام يحقق لها البقاء والهيمنة المطلقة ويمكنها من سحق أي محاولات لا تتعاطى مع هذا الواقع.. بينما الموروث السياسي والإداري الإنساني كشف عن عدم صحة هذه الافتراضات.. فالمركزية ليست هي أكثر قدرة على فرض هيبة سلطات الدولة.. فالدولة المركزية قدرتها محدودة على البقاء والاستمرارية، وعمرها أقصر بينما الدولة اللامركزية والتي تقوم على مبدأ الشراكة الاجتماعية في إدارة الشأن المحلي تكون أكثر قدرة على البقاء والاستمرارية لأنها تستمد قوتها من قوة المجتمع الذي أصبح بالضرورة شريكاً فاعلاً ومؤثراً لها إدارة الواقع وتطويره، وكذا توفير متطلباته الأساسية في التطور والتقدم والازدهار. ولهذا يحاول الكثير مقاومة ثقافة اللامركزية دون إدراك مضامينها الحقيقية والمتمثلة بإعادة توزيع صلاحيات المركز على وحدات الجهاز الإداري المحلي، وخلق شراكة معها، وأن اللامركزية السياسية والتي باتت تعرف حالياً بالفيدرالية الاتحادية هو الشكل الذي يحمل مبررات البقاء والتقدم والتطور.. وهذا النظام نظام إداري وسياسي تاريخي قديم أخذت به الدولة اليمنية القديمة وكذا الدولة الإسلامية الواسعة التي امتد نفوذها إلى مشارف الصين وفرنسا وغيرها من بلدان العالم.. وتمكنت هذه الدولة من إحداث تحولات حضارية فيها ماتزال قائمة حتى اللحظة. والدولة التي أخذت بهذا النظام تعد من أقوى الدول والإمبراطوريات منها حالياً الولاياتالمتحدةالأمريكية، والاتحاد الروسي وغيرها من البلدان الكبيرة. وربما أن اليمن فقد حضارته وقوته وتميزه على أثر قيام القبائل بتقاسم نفوذ الدولة وتحويلها إلى ما يشبه الإقطاعيات الصغيرة، وعملت السلطات المتعاقبة على إعادة تشكيل وعي الجماهير على أساس التعاطي مع هذا الواقع الجديد، والوعي بالقبيلة والعشيرة، وليس بالحقوق التاريخية، وجميعها ترتكز في نفوذها على قوة المركز المقدس الذي يفكر بدلاً عن الشعب، ويقر حاجاته ومتطلباته. ومن المشكلات الكبيرة أيضاً التي تواجه الدولة حالياً إن جاز اطلاق عليها هذه التسمية.. هي مشكلة التقسيم الإداري. فاليمن لا يوجد فيها تقييم إداري حديث يلبي احتياجات ومتطلبات الواقع، وإنما مجرد تشوهات إدارية، تلبي احتياجات الحاكم السابق الذي يسعى إلى فرض واقع السيطرة والاستبداد ولهذا فهناك الكثير من المستفيدين من هذا الوضع يرفضون التعاطي مع أي توجهات جديدة، ويعتبرون أن الفيدرالية نظام غير صالح للواقع اليمني، لأنه يتناقض ومصالح هؤلاء. والفيدرالية ليست نظاماً موحداً أو جامداً فهناك أشكال مختلفة ومتعددة لهذا التنظيم الإداري، وضمن هذا التعدد وجد هناك من يقول بالفيدرالية على أساس المحافظات، ويتحمس الكثير لهذا الشكل، وهذا في تقديري لا يلبي متطلبات التحول الذي يجري في الواقع، وذلك لأن المحافظات القائمة ليست تقسيماً إدارياً، ولم تقم على أسس علمية وفقاً لقانون السلطة المحلية رقم “4” لسنة 2000 وإنما عبارة عن نتوءات وتشوهات قامت على أساس تلبية متطلبات قوى الفساد. ولهذا خيار الفيدرالية على أساس المحافظات لا يخدم التنمية ولا يحقق الإصلاحات المطلوبة وإنما يلبي رغبات القوى المتنفذة التي تبحث لها عن موطئ قدم. فالنظام الفيدرالي في اليمن ينبغي أن يقوم على مستويين اثنين الأول الأقاليم باتساعاتها الجغرافية، وامتداداتها التاريخية واحتوائها على موارد وثروات ومقومات للنمو واستنهاض الواقع، والثاني الوحدات الأدنى وهذا الشكل قد يلغي خيار الأخذ بالمحافظات كوحدات أصغر. فالتقسيم على النحو القائم يعد مكلفاً مالياً وإدارياً وبشرياً لأنه يأخذ بمستويين محافظات ومديريات.. ويستحسن إلغاء المحافظات في ظل الأقاليم لأنها مشكلة قائمة في اليمن.. والتقسيم الحديث ينبغي أن يقوم على أساس استراتيجية جديدة، وتوجهات تنموية تلبي متطلبات التطور. وعلى هذا الأساس تقوم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. إذاً النظام الفيدرالي ليس مجرد أقاليم ومحافظات وإنما هو نظام إداري وسياسي وتنموي على حد سواء، وهو علاقات اجتماعية واقتصادية جديدة وتنمية تقوم على أساس الشراكة الاجتماعية الواعية والاعتراف بالآخر. وهذا يتطلب إجراء تقييم إداري جديد يأخذ بمعايير التنمية المحلية والاحتياجات الاجتماعية للتطور.. ووفقاً للعوامل العلمية الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية، والجغرافية وهذه العملية كفيلة بإزالة الفوارق الاجتماعية بين الناس، وإنهاء التميز على أساس القبيلة والعشيرة الممسكات بقوة النفوذ والقوة وهي العوامل التي ولدت لدي البعض شعوراً بالتفوق، وللبعض الآخر شعوراً بالتدني وربما الاحتقار وقد ينتج عن ذلك إعادة النظر في التسميات المناطقية التي تدل على هذه المعايير وإعادة تسميتها بتسميات تاريخية قديمة.. كشرط ضروري لإزالة هذه الثقافة من أذهان الناس. رابط المقال على الفيس بوك