التنظيم الإداري الحديث ارتبط جدلياً وموضوعياً بقيام الدولة الحديثة، والدولة الحديثة ارتبطت منذ نشأتها بالمشاركة الشعبية في إدارة شئونها، ولكن هذه المشاركة تقل إلى حد كبير في ظل ما يُطلق عليه الإدارة المحلية، نظراً لهيمنة العاصمة على وحدات الجهاز الإداري في مختلف مكونات الدولة الجغرافية. وتتسع رقعة المشاركة الشعبية في ظل مناخات اللامركزية السياسية والحكم المحلي.. حيث يكون المواطن في إطار وحدته الإدارية شريكاً فاعلاً في مختلف قضايا الشأن المحلي.. كلّما كانت الدولة محمية بمواطنيها ففي ظل الإدارة المحلية تقوم الدولة بتوزيع الوظيفة الإدارية في الدولة بين أجهزتها المركزية في العاصمة، وبين فروعها في المحافظات وفي ظل هذه الوضعية تكون الولاءات المحلية مرتبطة بأجهزة السلطة المحلية والدولة هنا هي التي تفكر بالنيابة عن مواطنيها.. هي التي تحدد احتياجاتهم وتحدد الأولويات من منظورها.. وبطريقة مركزية ...وولّد هذا شعوراً لدى الأجهزة المركزية بأن هذا من لوازم الدولة المركزية القوية. ولكنّ التطور الذي حدث، والتعقيدات العصرية كشفت عن واقع مغاير لهذا، فالدولة الوطنية الحديثة هي التي تعطي صلاحيات إلى شريك فاعل في إدارة أنشطتها الثقافية والتنموية، والاقتصادية والاجتماعية بصورة شاملة.. هذه الدولة التي تولّد لدى العامة شعوراً بشراكتهم في قيام النظام السياسي والإداري الذي يريدون وهنا تكمن قوة الدولة وقيام الدولة على أساس الشراكة الوطنية لم يكن وليد اللحظة وإنما يعد امتداداً للأفكار والتوجهات التي رافقت قيام الدولة الحديثة في القرن الثالث عشر في أوروبا.. حيث بدأت الأفكار الديمقراطية والتي عانت من هيمنة السلطات المركزية الواقعة تحت تأثير الكنيسة بالظهور وفرض نفسها على الواقع، وتحولت العملية إلى فكر برز في أدبيات ونتاجات الفلاسفة والمفكرين في تلك الفترة. وللدولة الحديثة مبررات موضوعية كثيرة.. فقد جاء تشكيلها على أساس ديمقراطي لإقناع الناس بأن الشكل القديم للدولة لم يعد ممكناً ،لأن الدولة القديمة ارتبط قيامها بالظلم والقهر الاجتماعي.. فكان الإقطاعي أو الإرستقراطي الذي يمتلك الحق في هذه الأراضي والممتلكات وكان الفلاحون هم مجرد أشياء من ملكية هذا الإقطاعي، ويمتلك الحق أثناء بيعه للأرض بيع الفلاحين معها كشيء من ملكيته.. وجاءت الدولة الحديثة كثورة ضد هذا الواقع الاجتماعي لتحرر الإنسان أولاً من العبودية المفرطة. وبالتالي قيام دولة يكون هذا العبد المضطهد شريكاً فيها.. إذاً يتأثر أسلوب الدولة في نهجها في التنظيم الإداري بظروفها السياسية والاجتماعية، ودرجة تأهيل النظم الديمقراطية فيها. فالدولة الحديثة التي جاءت على أنقاض الدولة الإقطاعية جاءت كضرورة اجتماعية وسياسة ملحة.. لتحرير المجتمع وتخليصه من العبودية المفرطة.. وهذه الدولة أي الحديثة جاءت بوعي مغاير للوعي السائد ولهذا كان هناك خوفاً وقلقاً كبيراً من سقوطها، وبالتالي إعادة الأمر التسلطي السابق للدولة الإقطاعية، وهذا جعل المفكرين والمعنيين بصورة عامة بالتفكير بقيام دولة ديمقراطية مركزية قوية.لنضمن أولاً عدم عودة الإقطاع مرة أخرى، ولتعطي نظرة مغايرة للدولة السابقة.. من خلال وجود شراكة اجتماعية واعية مع أطراف الدولة المختلفة في مستوياتها المحلية والمركزية، وفرض هيبة القانون على الجميع والمساواة الاجتماعية في الحقوق والواجبات وقد تمكنت هذه الدولة من إيجاد وعيً اجتماعي وقانوني جديد.. وأصبح المواطن فيها يحظى بمهام ووظائف جديدة وتنوعت خدمات الأفراد، وأصبحت التنمية المحلية جزءاً من واقع المجتمعات المحلية بصفة عامة.. ومن أبرز تحديات الدولة الحديثة.. ولهذا توسعت اهتمامات هذه الدولة بالبناء الديمقراطي وتوسيع رقعة المشاركة الاجتماعية في الحكم وفي إدارة الشأن المحلي، وأصبحت التنمية المحلية في هذه الدول تعكس واقع الاشراكية الاجتماعية.. فالمواطن معنيّ في وحدته الإدارية بأن يكون مشاركاً في إعداد الخطط وتحديد الاحتياجات ومتطلبات التحول نحو الأفضل والأحسن والأجمل. وأصبحت الدولة في ظل التطور الواسع الذي حدث ويحدث يومياً محمية من قبل الوعي الاجتماعي الواسع.. فلم تعد الدولة قادرة على توفير متطلبات التحول والبناء وتوفير الخدمات لرعاياها.. وإنما رعاياها هم المعنيون بالمشاركة في أداء الخدمات وإشباع حاجاتهم الأساسية في التحول نحو الأفضل.. وأصبحت في ظل هذا التطور مهمة الحكومة المركزية هي التفرغ للقضايا والوظائف الاستراتيجية التي تهم الدولة بصفة عامة.. وهذا أيضاً خلق نوعاً من التنافس الإيجابي للمحليات في العمل على تنمية مواردها واستغلالها في بناء وتطوير التنمية فيها. وأصبحت اللامركزية هي خيار الدولة العصرية.. وهذه الدولة تطوّرت في ظل وعي تاريخي بالشراكة الاجتماعية الواعية عن طريق الديمقراطية التي تعطي الحق للمواطن ان يكون حاكماً.. فنظام الحكم فيها يقوم على أساس تفصيل العمليات الديمقراطية، والتنافس الحر بعيداً عن تأثيرات السلطة ،فالبرنامج الانتخابي هو الذي يوصل هذا الحزب أو ذاك إلى السلطة، والبرنامج ذاته هو الذي يُسقط هذا الحزب أو ذاك.. والمواطن عن طريق العمليات الديمقراطية هو الذي يختار حاكمه بنفسه. إذاً الدولة العصرية تقدّم على أساس ديمقراطي، وعلى أساس الوعي بالشراكة والتنمية الذاتية.. والاستقلال عن تأثيرات المركزية وهذه الدولة هي التي فرضت نفسها وأصبحت هي النموذج الذي يسعى العالم بمختلف تشكيلاته ومكوناته إليها، وهي المحمية بالديمقراطية والتنافس الواعي.. وأصبحت الدولة بمختلف تركيباتها تعمل على انتخاب هيئاتها المختلفة عن طريق الديمقراطية.. وبلداننا العربية نموذج لذلك.. ولكن الوعي في البلدان الديمقراطية العريقة التي تكون عبر عقود من التطور والبناء والازدهار لا تنظر إلى السلطة على أنها غاية للاستئثار بالمال العام أو فرض الحاكم بالقوة، وإنما تنظر للعمليات الديمقراطية كسلوك والتزام أخلاقي.. وهي وسيلة إيصال هذا أو ذاك إلى سدة الحكم.. بينما الديمقراطية التي يسعى حكامنا العرب إلى فرضها كخيار وحيد هي وسيلة لإبقاء هذا الحاكم أو ذاك في سدة الحكم ، وعن طريق العمليات الديمقراطية يعاد إنتاج النظام السياسي القائم، أي إنتاج الظلم والقهر والعبودية عن طريق هذه العمليات والفرق هنا حضاري.. فالوعي الديمقراطي في أوروبا والعالم المتقدم تكرّس عبر قرون من الزمن.. والوعي في بلداننا بالانتخابات لايزال في مقدور السلطات تشكيله. وفي بلادنا ارتبطت العملية الديمقراطية بقيام الدولة اليمنية الحديثة التي كانت حاضرة في وعينا السياسي والاجتماعي، وفي خطابنا السياسي اليومي ولهذا أعدّت هذه الدولة مشروعها الديمقراطي والبنائي عن طريق قيام دولة ديمقراطية تنتخب هيئاتها القيادية عن طريق العمليات الديمقراطية والمشاركة الشعبية الواسعة وعن طريق التعددية الحزبية والتنظيمية التي كانت محرمة قانونياً ودستورياً قبل قيام هذه الدولة. وهذا لا يعني أن هذه الدولة تُدار بعقلية ديمقراطية بحتة... فهي لا تزال غير قادرة على إنتاج الوعي المتحرر من ثقافة الماضي الشمولي، ولا تزال غير قادرة على إقناع المسئولين أولاً بأن المواطن شريك له في إدارة الدولة وفي وضع السياسات التنموية والاقتصادية والثقافية والفكرية المختلفة، ولاتزال أيضاً غير قادرة على إقناع الناس بضرورة أن يكونوا شركاء حقيقيين في بناء الدولة، وتنمية وحداتهم الإدارية.. وأنهم أحرار في إعطاء أصواتهم لمن هم جديرون بها ولاتزال أيضاً النزعات التسلّطية لدى الكثير قائمة.. ولكن هذه العملية طبيعية جداً.. والإرهاصات الديمقراطية تولّد وعياً ديمقراطياً وبنائياً يترسخ ويتجذر يومياً في الواقع عبر المشاركة وعبر ثقافة الديمقراطية والتعددية والقبول بالآخر. وكلّما توسعت العمليات الديمقراطية كلّما كانت الدولة قوية، والوحدة الوطنية محمية بهذه الممارسات.. مزيداً من الديمقراطية مزيداً من التطور والتقدم والازدهار. رابط المقال على الفيس بوك