في ذكرى الهجرة ، لا يزال المسلمون يهاجرون منذ أربعة عشر قرناً .. غير أنهم يهاجرون اليوم خوفاً من بطش المسلمين بعد أن كانت هجرتهم الأولى خوفاً من ظلم المشركين ، وسواء كانت الهجرة أو النزوح خشية الموت جوعاً أو قصفاً ، فالنزوح هو الاسم الأنيق للهجرة القسرية ، ونادراً ما يهاجر الانسان ترفاً إذ إن معظم هجرات التاريخ كانت اضطرارية بما فيها الهجرة النبوية ، وتهجير الفلسطينيين “المبعدين” ونزوح السوريين من بطش الأسد ، وفي اليمن لا ننسى النازحين من أبين خشية الإرهاب ، ومن صعدة خشية بطش الحوثيين ، كما لا ننسى مهجري الجعاشن الذين يخشون بطش الشيخ ، والمهربين يومياً عبر الحدود خشية الموت جوعاً وهي هجرة اضطرارية لا تقل سوءاً عن النزوح . ولأن شعب اليمن أرق قلوباً وألين أفئدة ، فإنه يبكي طويلاً في ذكرى الهجرة لمعاناة الصحابة في رحلتهم من مكة إلى يثرب وينسى أنه شعبٌ يهاجر كل يومٍ منذ الأزل ، من المهد إلى اللّحد ؛ يهاجر من الريف إلى المدن هرباً من المجاعات ومن بطش المشائخ ، ويهاجر من المدن إلى مدن أخرى هرباً من الحروب “نازح” ، ويهاجر من اليمن إلى دول الخليج لطلب الرزق ، ومن اليمن إلى مصر والأردن للعلاج ، ومن اليمن إلى كل أصقاع الأرض لطلب العلم . ومنذ هجرة الملك الضلِّيل امرئ القيس لأرض اليمن بأمر والده بسبب الإفراط في شرب الخمر والتشبيب بالنساء لم يستقر لليمنيين حال ، أصبح شعباً يهاجر لأدنى سبب ، ولا يحتفظ بحق العودة ، وكلما أرّقه الحنين اكتفى بترديد قصيدة شاعره امرئ القيس “قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ” ، ثم يستعيد وعيه ليقسم أغلظ الأيمان بعدم العودة في نفس الوقت الذي يتحرق لهفةً عليها ، مشاعر نفورٌ لا تحمل الضغينة مع مشاعر شوق لا تحرك صاحبها إلى طريق العودة ، وهي مفارقة عجيبة . ويبدو أن اليمن بيئة طاردة بطبيعتها لحكمة يعلمها الله ، فقد هاجر اليمنيون الحضارم قديماً إلى شرق آسيا للتجارة وساهموا في نشر الإسلام بأخلاقهم وحسن تعاملهم واستقروا هناك ولا ينوي أحد أحفادهم العودة رغم الفقر المدقع الذي ينالهم اليوم ، وهاجرت قبائل الأوس والخزرج إلى يثرب ليكونوا أنصار رسول الله في الدعوة ، وهاجر معظم سكان مأرب إلى الجزيرة العربية عند انهيار سد مأرب، ويهود اليمن أيضاً هاجروا إلى اسرائيل خلاصاً من نظرة الدونية التي كان يرمقهم بها المجتمع اليمني ، ومع ذلك احتفظ اليمني بثقافته في المهجر ، وحتى في اسرائيل الدولة العنصرية ضد كل ماهو شرقي عموماً وعربي خصوصاً ، ولا توجد عاصمة في العالم تخلو من عائلات يمنية تنوي العودة مهما ساءت أحوالهم المعيشية أو تحسنت .. وحده أيوب طارش من استطاع خداع مهاجري اليمن في الخليج واستغل عاطفة الحنين لديهم من خلال أغنيته “ارجع لحولك” لإقناعهم بالعودة إلى بلد لم يكن مستعداً لاستقبالهم، وتسببت الأغنية -وليس غيرها - بإعادة أكثر من مليون يمني إلى الداخل ليصبحوا مستهلكين بعد أن كانوا منتجين، في كارثة تاريخية ، يبدو أن طارش ندم عليها .. كما هم نادمون.! وبالثورة استعاد اليمنيون في الخارج أملهم بوطن يمنحهم فرصة العيش الكريم ، وانتعشت مشاعر العودة لدى كثيرين للمساهمة في نهضة اليمن بعد أن نستعد جيداً لاستقبالهم وإفادتهم والاستفادة من كل مالديهم ، وبالثورة أيضاً استعاد المهجرين في الداخل من نازحي صعدة وأبين ومهجّري الجعاشن الأمل بالعودة إلى ديارهم ومدنهم وقراهم ، وفرصة العيش الكريم بعد أن تستعيد الدولة هيبتها وبسط نفوذها على كامل أراضي اليمن الحبيب ، وحتى لا نبقى شعب الشتات . [email protected] رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=465553823483698&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater