أنحاز دوماً إلى صوت العقل ومواقف الاتزان وأميل أكثر إلى الرأي الموضوعي والقول السديد ، فضلاً عن الحكمة عند اتخاذ القرار ، بل وأظن أن الوقوع في حبائل الشطط والتسرع يفقد المرء القدرة على التحليل ويدخله في مرحلة التجريب، وبالتالي إعادة استنساخ التجارب المريرة والمؤلمة سواء له أو للمجتمع من حوله. لذلك فإنني- كغيري – لا أستسيغ إصدار الأحكام تبعاً للمواقف الانفعالية أو أن يكون ذلك نتاجاً للشحن الجماهيري المنفلت عن الرؤية الموضعية مهما كانت جوهرية وصوابية المطالب أو عدالة القضايا التي يرفعها البعض، ذلك أن الشيطان دائماً ما يكمن في التفاصيل!. هذه المشاعر انتابتني وأنا أتابع السجالات في وسائل الإعلام المختلفة بين النخب السياسية وهي تتهيأ الدخول في الحوار الوطني ، حيث انقسم الكثير منها بين مؤيد لهذا الحوار وبين معترض عليه، وآخرون يشترطون سقفاً له وعلى النحو الذي ينبع من قناعات منطقية تارة أو من خلال إملاءات خارجية تارة أخرى وثالثة إما تحت تأثير الفورة الجماهيرية العاطفية أو لنوازع ذاتية حبيسة النفس بحثاً عن دور ما لمرحلة باتت في عهدة الماضي. هذا ما يمكن أن يقال تحديداً في السجال حول القضية الجنوبية ، حيث يلمس المراقب تعدد الأطروحات، بين من يستسهل حلول الانعزالية في بيئة إقليمية ودولية لا تسمح بهذا التشظي وأخرى عقلانية ترى في تصحيح مسار التجربة والتذكير بمخاطر ما قد تؤول إليه مثل هذه الأطروحات الانعزالية، وبالذات لجهة انسحابها على إعادة إنتاج الصراعات والحروب التي خبرها اليمنيون مراراً واكتووا بنارها كثيراً. ..وثمة رأي ثالث يعتمد على خيارات الإبقاء على الموروث السياسي الذي صاغته فترة ما بعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990م.. وهي صيغة لم تعد مناسبة أيضاً لتعميق مفهوم الدولة الحديثة وتجذير تجربة التنمية الشاملة في بعديها الاقتصادي والاجتماعي. وإذ أطرح مثل هذه الرؤى المتعددة والمتباينة، فذلك لأنه يفترض أن نبحث عن أفضل الصيغ التي تنأى بالتجربة عن التجاذبات التي قد تقحمها في مخاطر الاقتتال والتشظي وتسمح بالتالي إبقاء اليمن في هذه الدوامة التي تعيد إنتاج نفسها كلما اقتربنا من الحل.. ولنا في استذكار التاريخ القريب ما يغنينا عن شرح هذه النتائج المؤلمة، حيث فشل الجمهوريون مطلع ستينيات القرن المنصرم من تصويب مسارات الثورة في الاتجاه الصحيح، تماماً كما فشل الرفاق في الجنوب من توحيد الصف الداخلي بعد تفجير الثورة ونيل الاستقلال أواخر الستينيات، مثلما فشل أيضا النظامان السياسيان في فرض صيغة كل منهما على الآخر.. إلى أن تكللت تلك التناقضات - المدعومة بعوامل ومؤثرات خارجية - بإقامة الجمهورية اليمنية والتي فشلت هي الأخرى- كصيغة - في إحداث التوازن الموضوعي الذي يحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وذلك يرجع - ربما - إلى طغيان الحماس على العقلانية والفورة العاطفية على الرؤية الموضوعية, وقد حان الآن أمام جميع القوى والأطراف السياسية أن تستعيد وتستوعب دروس الماضي القريب بهدف البحث عن صيغ مستقبلية تحافظ على الحد الأدنى من القواسم المشتركة والغوص في معطيات الحاضر محلياً وإقليمياً ودولياً وفي الإطار الذي يحافظ على استقرار وسيادة الوطن وبما يحقق للمجتمع تطلعاته في التنمية المستدامة وعلى النحو الذي يجنبه الصراعات الإقليمية والدولية بالاستفادة من الإجماع الأممي غير المسبوق، وذلك بالنظر إلى إدراك هذه القوى للموقع الجيو–ستراتيجي المهم الذي تحتله اليمن في منطقة تنتج وتمر منها قرابة سبعين في المئة من موارد الطاقة عالمياً. لكل لذلك، فلكم نحن بحاجة اليوم إلى ابتداع الحلول والمعالجات لمجمل قضايانا السياسية والمطلبية بعقلية منفتحة وبعيداً عن استجرار تجارب الماضي أو تأثيرات حسابات الربح والخسارة وذلك بالبحث عن مسارات آمنة للتسوية التي تتهيأ لها فرصة الحوار المدعوم بالإرادة والإجماع الأممي.. فقط على جميع القوى الوطنية تحليل الوضع القائم برؤية عميقة وعقلانية غير متسرعة أو ضيقة تسمح بفسحة الاستشعار الجدي بأن الجميع على ظهر سفينة واحدة ولا يجوز لأي طرف أو فرد بأن يتسبب في إلحاق الضرر بأي جزء من السفينة لأن في ذلك ضرراً على الجميع إن لم يكن هلاكهم أجمعين.. والله المستعان. رابط المقال على الفيس بوك