نظرية الحكم أو الفكر السياسي، لا تهم كثيراً لا الحكومات ولا الأفراد إلا حينما يتعرضون لأزمة، توجب اعتماد نظرية للحكم ترسم الأطر العامة لإدارة الدولة وكيفية تعاملها مع مواطنيها.. ومخرجات ثورات الربيع العربي التي أتاحت للقوى ذات النزعة الاسلامية الاقتراب من سدة الحكم او الوصول إليه، لا بد ان تستدعي اعادة النظر في النظرية السياسية لنظام الحكم عاجلاً ام آجلاً. القوى الاسلامية بحاجة دون غيرها الى نظرية جديدة للحكم، بخلاف تيارات أخرى يغلب عليها الطابع الليبرالي والعلماني، إذ لا تجد الأخيرة مشكلة في الأمر، فالنموذج جاهز ولا حاجة لبديل، فهي منذ ولادتها، نهلت من النموذج الغربي الأوروبي وتماهت معه، سيما وقد حقق نجاحات ساحقة هناك، وترى احتذائه كنموذج دونما اعتبار لمديات ملائمته للبيئة الواقعية وحتى التاريخية للمجتمع العربي والاسلامي. ضداً على ذلك الإسلاميون، فهم وإن حاولوا التماهي أو التعامل معه، فلأنه واقع لا مناص من مجاراته ليس إلا، الى حين ابتداع نموذج جديد، ينهل من الموروث الاسلامي التليد خاصة في بواكيره الأولى النقية.. عصر صدر الاسلام والخلافة الراشدة.. حيث شهد محاولة صياغة نظرية للحكم، تقترب كثيرا في بعض ممارساتها مما هو حاصل في الغرب الآن، كالرقابة الشعبية على الحاكم، الذي تجسده مقولة ابو بكر الصديق اول الخلفاء الراشدين،(فإن وجدتم فيّ خيرا فأعينوني .. وإلا فقوموني) .. فالحاكم وإن كان خليفة يستمد سلطته من الشعب، وله ان ينزع عنه ملكه... الى جانب ممارسات اخرى كالبيعة التجسيد الممكن حينها لمبدأ سلطة الشعب، أو في إلغاء فكرة توريث الحكم، لصالح الأفضل والأصلح من المسلمين، ممن يختاره اهل الحل والعقد، المعادل الموضوعي لمجالس الشورى والبرلمان في الوقت الراهن. غير تلك الملامح الديمقراطية.. شهد المجتمع الاسلامي تمازجاً خلاقاً بين الدين والدولة، السلطتين الزمنية والروحية، فكان الرسول الكريم، الى جانب رمزيته دينية، قائداً عسكرياً وسياسياً أيضاً، ومثله خلفائه الراشدين، ولم يكن هنالك صراعاً حاداً بين السلطتين حتى في مراحل انحطاطه كما الغرب وإن جرى توظيف الدين بطريقة فجة وسيئة في كثير فترات لديمومة سلطة الخلفاء والسلاطين . التلازم بين الدين والدولة في الاسلام لا يعني ان الخليفة يحكم بأمر الله وله قدسيته، قدر ما يعني انتفاء حالة الصراع بينهما، وأن الدين القويم هو مرجعية للجميع، مثلما هو للحاكم ولنظامه، فهو قائدهم السياسي ورمز وحدة المسلمين، فباستثناء الرسول الكريم الذي جمع بين السلطتين، الا ان خلفاءه لم يكونوا على تلك القدسية، فهم خلفاء رسول الله لا خلفاء الله، او ظله في الارض كما جرى التعبير عنه في عهد العباسيين.. مع وجود تقسيم للعمل بين السلطان أو الخليفة و العالم الديني والقاضي الذي كان لكل منهم اختصاصات وسلطات معينة لا يتجاوزها.. الممارسات تلك لم تتطور الى نظرية حكم اسلامية متكاملة حتى الآن.. بل شهدت ارتداداً مؤسفاً إبان حكم الأمويين والعباسيين الذين اعتمدوا توريث الحكم لابنائهم، ما مكن شخصيات ضعيفة الوصول الى سدة الحكم، اسهمت مباشرة في انهيار تلك الدول... على حين أن البيعة لم تتجاوز بعد العهد الراشدي حدود الشكلانية، وحتى الخلافة العثمانية لم تشذ عن الممارسات السيئة للأمويين والعباسيين.. الحاجة الى نظرية جديدة للحكم، تكتسب ضروراتها في كون النموذج الغربي، لا يمكن تمثله كاملاً في مجتمعات مغايرة لاختلاف السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهو نتاج البيئة الغربية وموروثها التاريخي، الذي شهد انفصالاً تاماً بين الدين والدولة، السلطة الزمنية (السياسية) والسلطة الروحية (الدينية)، فالديانة المسيحية لم تولي أيما اهمية لموضوعة السلطة السياسية كشأن دنيوي، فيما اقتصر اهتمامها على الجوانب الروحية الدينية، بسبب الموت المبكر للمسيح عليه السلام ( توفاه ورفعه الله أوئل الثلاثينات من عمره) الذي لم يترك غير تعاليم تتصل بالعقيدة الروحية، وظل المسيحيون ينتظرون عودته، لاكمال التعاليم التي تلامس الجوانب الدنيوية، وهو ما لم يتحقق، ليحدث الطلاق بين السلطتين، وكان هذا مغلفاً في (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله).. وأضحى القانون الأوروبي في معظمه خارج مجال القانون الديني تماماً، فكان هنالك قانون كنسي وقانون مدني.. فإن كان لا انفصال بين السلطتين في الاسلام كما الغرب، فما الداعي لمحاولة فصلهما الآن.. وطالما أن لا صراع فما الحاجة الى تخليقه واصطناعه، وخلق الانقسامات.. فضلا عن أن التقدم الذي شهده الغرب، لم يكن بسبب الفصل بين الدين والدولة كما يدعي البعض، بل هو إفراز طبيعي للحركة الاستعمارية الأوروبية واستغلالها لكثير من مقدرات الشعوب الأخرى، التي انتجت مكاسب اقتصادية انعكست بدورها في تحسين البنية السياسية والاجتماعية له، وهو امر لا يمكن مقاربته وتمثله في العالم العربي والاسلامي حاليا، لدواعي اخلاقية وواقعية صرفة. الحاجة الى فكر سياسي مغاير تشتد في ان مقتضيات العصر توجب التعامل مع متغيراته بأدوات وآليات جديدة، باعتبار الشأن الدنيوي متغير، يختلف من عصر لآخر بخلاف الجانب الروحي .. والاسلام ذاته وإن وضع خطوطاً عامة لا في أمور الدين فقط، إنما في الشؤون الدنيوية والمجتمعية، كالزواج والطلاق، التجارة والنظام الضريبي، تحرير العبيد، الجنح والجرائم وغيرها المندرجة ضمن مفاهيم العدالة الاجتماعية والاقتصادية.. إلا انه لم يحدد تفصيلا لآليات إدارة الدولة، بل ترك الأمر للمسلمين انفسهم لصوغها وفق ما تقتضيه مصالحهم المتغيرة .. ولا مثابة في الإفادة من تراث الشعوب الأخرى وان كانت غير مسلمة، وهو ما تحقق في نقل المسلمين للكثير من حكمة الهنود والنظام الاداري للفرس وفلسفة اليونان.. وبالمثل يمكن الإفادة من التجربة الغربية في الحكم الى حد ما، وتوسلها حاليا، سيما في آلياتها المتصلة بالنظام الانتخابي والتمثيل النسبي للشعب (البرلمان)، ولها قبل ذاك الإفادة من الموروث الاسلامي سيما في بواكيره النقية، في صياغة هذه النظرية.. إلا أننا في النهاية لن نستطيع لا تمثُل النموذج الغربي كاملا، ولن ننجح في استنساخ تجربة عصر صدر الاسلام، لاختلاف السياقات التاريخية عن الغرب، وللتباعد الزمني الهائل وتعقد الحياة الاجتماعية، عما كانت عصر صدر الاسلام.. ما يضاعف الحاجة الى نموذج جديد للحكم يأخذ بالاعتبار المتغيرات السالفة. غير أن القضية أصعب مما تبدو، فالوصول الى نموذج خلاق لنظام الحكم، وفق شروط ملائمة للبيئة والمصلحة، يستلزم وقتا ليس هينا.. فالعرب منذ بواكير يقضتهم في العصر الحديث، لم ينجحوا في تخليق هكذا رؤية، خلال 150 عاما.. فكيف يمكن اجتراحها في بضع سنين؟!.. فضلا عن أي مكونات سياسية تنجح في الوصول للحكم، والإسلاميون في مقدمتهم، مضطرين لتغليب الاقتصادي على السياسي، وحل مشكلات البطالة وارتفاع معدلات الفقر، والمشكلات الاجتماعية الاخرى كالعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان، التي كانت سببا في اندلاع ثورات الغضب العام الماضي... ليظل البديل المتاح : اعتماد النموذج الغربي في الحكم وتوسله الى حين صياغة نظام آخر مغاير.. رابط المقال على الفيس بوك