تتماثل الأحداث التي شهدها العرب والمسلمون بعد انهيار دولة الخلافة العثمانية في التاريخ الحديث، بما كان بعيد انهيار الخلافة العباسية في بغداد، فكلا الحدثين، أنتجا حركة تجديد واسعة في علاقة السلطة السياسية بالسلطة الدينية .. وما حدث في القرن الحادي عشر الميلادي لا ينفك يلقي بظلاله حاليا على حركات الاسلام السياسي، بمكونيها الرئيسيين: السني والشيعي.. .فكلاهما يحاولان اعادة تموضع الشريعة الاسلامية بالنسبة لنظام الحكم والسلطة السياسية... وهنا نركز على الجذور الفكرية لحركات الإسلام السياسي السني. الازدهار الحضاري للإسلام منذ عصر النبوة حتى منتصف الخلافة العباسية، أعقبه مرحلة انحطاط فكري وسياسي أدى الى إغلاق باب الاجتهاد، وحدوث قطيعة بين فقة العبادات والمعاملات، ليقتصر الاجتهاد في العبادات دون المعاملات، حتى العصر الحديث، وهو ما أعاق تطور نظرية اسلامية للحكم واكتمالها .. غير أن القرن الحادي عشر الميلادي ، كان علامة فارقة و مساحة زمنية خصبة، لعلماء مجتهدين اعادوا تقويم العلاقة بين السلطتين الزمنية والروحية بدأها علماء مجتهدون أمثال الماوردي وابن تيمية، وعرفت تلك الفترة الزمنية ب (سنوات الإحياء السني).. وفيما دعا الأول الى اعادة تأكيد الخلافة (القيادة: الامامية ) كنقطة ارتكاز للنظام السياسي بالاضافة الى النظام الديني للمجتمع، أكد الثاني ضرورة الاتصال بين الدين والسياسة، داعيا السلطان المملوكي والحكام المسلمين الآخرين الى أداء واجباتهم الدينية، وزملائه العلماء الى الانشغال بالسياسة ثانية، مستنكرا غياب الاهتمام الديني للسلاطين، واللامبالاة السياسية للعلماء. حركة الإحياء السني التي كان قطباها الماوردي وابن تيمية، كانت تتغيا إعادة تموضع الشريعة الاسلامية في الدولة ونظام الحكم، باعتبار الاسلام دينا شاملا، للدين والدنيا والمجتمع، وهي امتداد فكري لمدرسة أهل الحديث وتيار السلفية في الإسلام التي بدأها بآماد بعيدة الإمام احمد بن حنبل وجماعة الأشاعرة، المنادية بتغليب سلطة النص (القرآن و الحديث النبوي)، على العقل، كون الأخير تاليا للإيمان لا سابقا عليه.. وإجمالا نشأت السلفية حينها لمجابهة التيار العقلي في الإسلام، الذي يرى تقديم العقل على النص، متوسلا المنطق العقلاني والفلسفة اليونانية في الدفاع عن الإسلام والرد على دعاوى غيرهم. حركة التجديد في القرن الحادي عشر، جرت الافادة منها إبان حكم العثمانيين، سيما بعدما شعر السلاطين العثمانيون ضرورة الاستناد الى الدين في تقوية الملك وحشد الدعم الشعبي.. واستمر تأثيرها الى الآن على مختلف الحركات الاسلامية بتياريها، الراديكالي والتقدمي/ الحداثي، خاصة في أوساط سنة المسلمين.. وعلى حين أثمرت أفكار ابن تيمية، السلفية الدعوية والجهادية على حد سواء ، لتنتج الحركة الوهابية والقاعدة معا.. لتنشطا في ذات المساحة الجغرافية العربية، إلى جانب طالبان أفغانستان والجماعة الاسلامية في باكستان... بيد ان هنالك مغايرة بينهما، فعلى حين اقتصر التيار الراديكالي الوهابي، الى الدعوة الاصلاحية وتخليص الدين من شوائب علقت به من عصور الانحطار، ورغم إفادته من السلطة السياسية في انتشار دعوته، بالمثل استثمرت السلطة السياسية الدعوة الوهابية في تدعيم سلطتها حتى تغلبت عليها، الأمر الذي حد كثيرا من دور الحركة سياسيا، ما جعلها خارج التصنيف الشائع حاليا لتيارات الحركات الإسلامية المعاصرة.. ما أفضى في نهاية الأمر الى تيار متطرف نشأ منها، هو تنظيم القاعدة الذي أخذ يتوسل العنف لتحقيق مآرب سياسية. المدرسة السلفية للماوردي وابن تيمية اثرت أيضا على حركات الاسلام السياسي الحداثية، ويمكن الجزم بأن جماعة الاخوان المسلمين بمختلف تياراتها افراز طبيعيى لحركة التجديد تلك، وما تلاه من اجتهادات لعلماء امثال العز بن عبد السلام وابن خلدون في إعادة رسم العلاقة بين الدين والدولة باعتبارهما كلا موحدا لا انفصال بينهما.. وتماما كما أفرز انهيار دولة الخلافة في بغداد ، حركة تجديد في الفكر الاسلامي ، جاءت حركة الاخوان المسلمين التي اسسها رسميا الإمام حسن البناء في مارس 1928م ، كنتاج موضوعي لانهيار دولة الخلافة العثمانية مطلع عشرينيات القرن الماضي، كحركة تستهدف إعادة دولة الخلافة الاسلامية، ومجابهة تحديات وأفكار غربية طغت على الحياة السياسية والاجتماعية، منتجة طيفا من الأفكار العلمانية والشيوعية والقومية. حركة الاخوان كسائر الحركات الاسلامية تعتقد بأهمية إعادة الشريعة الاسلامية الى الصدارة من نظام الحكم، فيما يمكن ان نطلق عليه (حركة التنوير الاسلامي) وإن كان شذ منها بعد ذاك تيار متطرف هو جماعة الجهاد الاسلامي، التي انفصلت عن الاخوان بعد اعدام سيد قطب، ليتخذ الفصيل طابعا عنيفا نفذ اغتيال الرئيس المصري السابق انور السادات العام 1981م. امتاز الإخوان عن السلفية الوهابية والقاعدة، في اعتدال وسطي، ينبذ عنف القاعدة كواسطة للوصول للحكم، والجبرية السلبية للوهابية من النظام الحاكم، كما انها لا تجد اشكالية في ثنائية الأصالة والمعاصرة، القضية التي كانت ولا تزال مجالا لنقاش مستفيض منذ بواكير يقظته العرب في العصر الحديث، وربما مرد الأمر الى إفادتها من الأفكار الحداثية لعلماء مجددين امثال جمال الدين الافغاني، وربيبه حافظ سره الإمام محمد عبده، الأمر الذي انعكس مباشرة على أفكار محمد رشيد رضا ، المعلم الأول لحسن البناء، وهو ما يتجلي حاليا في أفكار حسن الترابي ويوسف القرضاوي ومحمد سليم العوا ومحمد عمارة.. في رفضهم لتلك الثنائية، لا باتجاه رفض المعاصرة كما السلفية الراديكالية والانقطاع فقط الى التراث ومحاولة تمثل عصر النبوة والخلافة الراشدة ، رغم انعزال حاضرنا في كثير من قضاياه الحياتية عن ماضي تجاوزه الزمن.. أو بالانصراف التام الى النموذج الغربي وما يستتبعه من فصل للدين عن الدولة، كما دعا مصطفى عبد الرازق، طه حسين، نصر حامد أبو زيد ، وفرج فودة.. وغيرهم ممن يندرجون تحت مسمى (الإسلاميون الليبراليون) .. ضدا على ذلك ، يرى رموز جماعة الاخوان ان الواجب انسكاب الماضي في الحاضر بحيث لا يعيقه عن ادراك مقتضيات العصر ومتطلباته... ولا يشكل انقطاعا عن السياق التاريخي والحضاري للأمة . الاخوان المسلمون بامتداداتهم وتياراتهم، استطاع بعضهم الآن الوصول الى الحكم كما مصر، سبقتها جماعة السودان إليه، وشاركت امتداداتهم فيه بمستويات متغايرة في اليمن، الأردن، المغرب، تونس، فلسطين (حماس في الظفة الغربية ) الجزائر وتكاد في سوريا .. فيما الإسلام الراديكالي وصل الى حكم افغانستان والسعودية.. وفيما فشلت تجربتهم في السودان وأفغانستانوالجزائر، ولا تخلو تجربتهم في مصر وفلسطين من عديد عثرات.. إلا ان تقييم الإخفاق أو النجاح في تجربتهم، يخضع لعديد متغيرات، ذاتية وموضوعية: الأولى تعود الى حداثة تجربتهم وعدم اكتمال النظرية السياسية للحكم، خاصة وان التطبيق العملي هو محك اختبار لأيما نظرية مثلما يوفر إمكانية تطورها، وأخرى موضوعية تتصل بمؤثرات و قوى خارجية تحاول جاهدة عدم تحقيقهم أيما نجاح كما في مصر وافغانستان والسودان وفلسطينوالجزائر.. كما ان بقاء التيار الراديكالي السلفي في حكم دولة عربية مؤثرة سنين طويلة لا يؤشر لنجاحهم، قدر ما يعني ان ذات القوى الخارجية تدعم باستماتة بقائهم، وفقا لتغيرات مصالحها. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك