على عكس الباحثين المشتغلين بموضوع المجتمع المدني الذين «يرون أن العالم العربي الإسلامي لم يعرف تداول المفهوم إلا في حدود الربع الأخير من القرن الماضي باعتباره مفهوماً دخيلاً على تراث الفكر السياسي العربي الإسلامي، وأن رواد الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي في القرن 19 تأثروا بمفاهيم سياسية غربية جديدة مثل: الوطن، والدستور، والانتخابات، والعدل السياسي، والحريات العامة؛ ولم يكن من ضمنها مفهوم المجتمع المدني»، نرى أن الثقافة الإسلامية العربية كانت عرفت قديماً مصطحات ك «المدينة، والسياسة المدنية»؛ والأخير عنوان لأحد الكتب الهامة للمفكر السياسي والأخلاقي الرائد «الفارابي» الذي نستحضره هنا؛ لأن رؤاه المتجاوزة باتجاه المدنية مقارنة بأقرانه من المفكرين باتت تدرس في أرقى الجامعات الأوروبية، بل وتأخذ منحى اهتمامياً رفيعاً. وكان الفارابي قسم تصوره المنطقي «المعرف بأغراض جوامع السياسة للمدن» إلى أقسام عدة أهمها كما أسلفنا «المدينة الفاضلة»، حيث القصد فيها كما يقول: «الإبانة عن الجماعة التي تسود فيها السعادة»، بحيث يطلب جميع أهل هذه المدينة السعادة على خلاف بقية المدن؛ فيما تبدو السعادة عنده «مرتبطة بتصوره للتركيبة الإنسانية والنفس الإنسانية» لتتحقق السعادة هناك برأيه «عندما تسيطر حكمة النفس العاقلة على النفس الغضبية والنفس الشهوانية فيصل الإنسان للسعادة». من مدن الفارابي: المدينة الضرورية التي يجتمع أهلها لتأمين ضروراتهم، ومدينة النذالة التي يسعى أهلها إلى جمع الأموال ومراكمة الثروات والقوة، ومدينة الخسة التي يحاول أهلها الوصول إلى السعادات الحسية، مضافاً إلى جمع الثروة، ومدينة الكرامة التي يسعى أهلها إلى السعادات غير الحسية، وصولاً إلى مدينة الغلبة التي يكون المعيار الأول فيها لقوة العصبة بالتعبير الشهير لابن خلدون، وفيها يكون رئيس السلطة، الأكثر قوة وصلفاً وسوءة؛ فيما تتحول هذه المدينة بازدياد القوة والبطش والخداع إلى مدينة الجبارين كما يخلص إلى ذلك الفارابي أيضاً. أما أروع المدن فهي المدينة الفاضلة بصفتها أيضاً مدينة الجماعة التي فيها أحرار متساوون غير قاهرين، لا فضل لأحد منهم على أحد، والفاضل فيها هو من يؤمِّن أكبر قدر من الحرية والمحبة لأفراد هذه المدينة. بالمقابل نقول: إن هناك عوامل وشروطاً تضافرت لميلاد واقعة المجتمع المدني الحديث، ليس كمفهوم ولكن كمعطى معرفي سوسيولوجي؛ بعيداً عن طروحات تجذير وتبيئة هذا المفهوم داخل التربة العربية الإسلامية، لذلك سجل ويرى الباحث محمد الغيلاني «أن المجتمع المدني ليس حقيقة ناجزة نتأكد تلقائياً من وجودها دون تحديد واضح للمقدمات، بل هي فرضية ملأى بالمفارقات، ومرصد لتاريخ حافل بتجاذب الأفكار وتدافع التجارب. وذلك أنه لا تكمن أهمية المفهوم ووظيفته في بذل الجهد لإثبات وجوده من عدمه، وإنما تتجلى أهميته في التعاطي معه بحسبانية أداة تحليل وتفسير لمجمل التحولات والوقائع الاجتماعية التي تعتمل في النسيج المجتمعي». ومع إخفاق الدولة الوطنية في المجتمعات العربية الإسلامية في تحقيق التنمية بمضمونها الشامل. بالإضافة إلى التعامل مع التنمية باختزالها في بعدها الاقتصادي، وإهمال الأبعاد التنموية الأخرى؛ دخل الوعي العربي في سلسلة التساؤلات عن المخرج من هذه الوضعية الكارثية، وقد كانت لحظة التساؤل الإيجابي عن مواطن الخلل في ماكينة التغيير، والنقد الحاد في فرضيات، ومفاهيم، ورهانات، وأدوات المرحلة الماضية – بتعبير الباحث القدير عبد الإله بلقزيز. كذلك مع انتشار الفكرة السلمية في الحياة السياسية بالوطن العربي الإسلامي؛ بعد أن أثبتت التجربة السياسية الماضية على فشل الرهان على العنف أو العنف الثوري سبيلاً لتحصيل الحقوق وإشباع المطالب السياسية والاجتماعية؛ تراجع الشيوعيون واليسار عن عقيدة العنف الثوري (البلشفية) التي آمنوا بها إلى درجة التقديس، وقدم القوميون نقداً ذاتياً عن النزعة الانقلابية التي تبنوها، أو تعايشوا معها، أو سكتوا عنها، كما تخلى قسم من التيار الإسلامي عن بعض من أفكاره الخوارجية العنيفة.. وكان الجامع بينهم جميعاً الشعور بالحاجة إلى إعادة تقديم صورة جديدة عن السياسة والعمل السياسي، تتسم بالتنافس لكسب الرأي العام وتحصيل الشرعية. وليس من شك أن مفهوم المجتمع المدني فتح أمامهم هذه الإمكانية: نعني إمكانية بناء وعي سياسي جديد. رابط المقال على الفيس بوك