قدم علماء العرب والمسلمين إسهامات كثيرة في مجال علم النفس تبهر كل من اطّلع عليها؛ فقد تشكّل علم النفس في التراث الإسلامي كما تشكلّت معارف المسلمين المختلفة، وعلم النفس في التراث الإسلامي لم يكن صنعة يجتمع عليها فئة من الدارسين كما كان النحو صنعة تجمع النحويين والشعر صنعة تجمع الشعراء، ولكن استخدم علماء التراث المناهج بأسلوب علمي كالاستبطان، والملاحظة، ودراسة الحالة إلا أن هذا العلم توزع بين المؤلفات التراثية المعنية بأسس السلوك البيولوجية والكتب الفلسفية، والفيزيائية والرياضية، وقد عالج علماء التراث الظاهرات النفسية كل من زاوية اهتمامه العلمي، وكان للمسلمين فضل السبق والإضافة في كثير من مجالات علم النفس. وتعد كتب التراجم وطبقات الأعلام التراثية، وبعض هذه الكتب غنية بمادتها السيكولوجية، مثل طبقات الأطباء (ابن أبي أصيبعة وابن جلجل) وبعضها يتسع ليشمل تراجم جميع أعلام الفكر، وتوفر هذه المؤلفات قاعدة متينة تمكننا من متابعة تطورات المفاهيم. وكتب الأدب والمصنفات الأدبية مثل: كتاب الأغاني، الإمتاع والمؤانسة، والعقد الفريد، وتحتوي هذه المصنفات على تفاصيل هامة كانت قد أهملت أو اختزلت وكذلك المؤلفات الفلسفية، والتي تضم آراء الفلاسفة في النفس، إضافة إلى بعض النظريات الهامة، والتصورات والتي تشكل أساساً نظرياً لشرح التصور الإسلامي للإنسان وحياته النفسية. ابن سينا (370-428ه/980-1036م) : رسم تخيلي لابن سينا ولعل خير مثال على ذلك جهود ابن سينا في هذا المجال؛ فقد سبق علماء الفيزيولوجيا والسيكولوجيا المعاصرين في قياس الانفعال على أساس قياس التغيرات الفيزيولوجية المصاحبة له، ففي علاجه لأحد المرضى شكّ ابن سينا بوقوع المريض في الحب الذي تحوّل إلى حالة عشق، وحاول معرفة اسم الفتاة التي يعشقها المريض وابتكر طريقة طريفة، وهي أن يقول للمريض عدة أسماء لبلاد وأحياء وفتيات، وكان يقيس أثناء ذلك سرعة نبض المريض لمعرفة مقدار الانفعال الذي تثيره هذه الأسماء، وقد استطاع بهذه الطريقة أن يعرف اسم الفتاة التي كان يعشقها المريض، والمكان الذي تعيش فيه، وتعتبر هذه الطريقة إرهاصاً مبكراً لاختراع الجهاز الحديث المعروف باسم (جهاز استجابة الجلد الجلفانية) والذي يسمى أيضاً (جهاز كاشف الكذب) وأشار ابن سينا كما أشار الفارابي من قبل إلى الأسباب الأهم لحدوث الأحلام، والتي توصل إليها العلماء المحدثون فيما بعد، ومما ذكره كل من الفارابي وابن سينا أن بعض الأحلام تحدث نتيجة لتأتير بعض المؤثرات الحسية التي تقع على النائم، سواء كانت هذه المؤثرات الحسية صادرة من الخارج أم من داخل البدن، قال ابن سينا في هذا الصدد: (.... ومن عرض لعضو منه برد أو سخن بسبب حر أو برد حكى له هذا العضو منه موضوع في نار أو في ماء بارد) وقد دلت البحوث التجريبية المعاصرة على صحة ذلك، كما قال كل من ابن سينا والفارابي بالرمزية في الأحلام. ابن سينا ويبتدع ابن سينا جديداً فى علاج مريض الميلانخوليا، والذى امتنع عن الطعام والشراب حتى نًحُل، مع هذاء يتصل بكونه بقرة، وبعد أن يحار الأطباء فى علاجه، يذهب إليه ابن سيناء “وكان فى ذلك الوقت وزيراً” في إهاب قصاب (جزار) ومعه مساعداه، وكان قد أوصى أهله أن يخبروه أن الجزار قادم لذبحه. وقد "ركب الأستاذ (ابن سينا) وجاء في موكبه المعتاد إلى قصر المريض ثم دخل مع رجلين والسكين في يده، وقال أين هذه البقرة لأذبحها، فقلد الشاب المريض خوار البقرة، مما يعني أنه هنا، فقال الأستاذ جروها إلى فناء القصر وأوثقوا يديها ورجليها وأضجعوها، فلما سمع المريض هذا جرى إلى وسط القصر واضطجع على جنبه الأيمن.. ثم جاء أبوعلي (ابن سينا) وسن السكين على السكين ثم جلس ووضع يده على خصر المريض كعادة القصابين وقال: “وه ، يالها من بقرة هزيلة، إلا أنه لا يحل ذبحها، أعلفوها حتى تسمن.... " وتتتابع القصة التي حكاها النظامي العروضي السمرقندي في الحكاية السابعة من المقالة الرابعة من كتابه “جهار مقاله“( ). مسكويه (ت 421 ه / 1030م): واشتهر مسكويه بكتابه ((تهذيب الأخلاق)) الذي اهتم فيه بالنفس وما يتعلق بها من عوامل فيرى ((أن النفس وإن كانت تأخذ كثيراً من مبادىء العلوم عن الحواس فلها من نفسها مبادىء أخرى وأفعال لا تأخذها عن الحواس، وهي المبادىء الشريفة العالية التي تبنى عليها القياسات الصحيحة)). ومن رأيه أن النفس العاقلة فينا هي بمثابة المجهر الذي يستدرك شيئاً كثيراً من خطأ الحواس في مبادىء أفعالها.. ويضيف في تعريفه للنفس بقوله: ((فالنفس ليست بجسم ولا بجزء من جسم ولا حال من أحوال الجسم، وإنها شيء آخر مفارق للجسم بجوهره وأحكامه وخواصه وأفعاله)) (ابن مسكويه، 1985، 4). ويقسم ابن مسكويه النفس إلى ثلاثة قوى كما يلي: _ ((القوة الناطقة)) التي يكون بها الفكر والتمييز والنظر في حقائق الأمور، و((القوة الغضبية)) التي يكون بها الغضب والنجدة والإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع وضروب الكرامات، و((القوة الشهوية)) التي يكون بها الشهوة وطلب الغذاء والشوق إلى الملاذ في المشاكل والمشارب والمناكح وضروب اللذات الحسية. ولكل قوة من هذه القوة فضيلة خاصة بها.. فالقوة الناطقة فضيلتها الحكمة، والقوة الغضبية فضيلتها الشجاعة، والقوة الشهوية وفضيلتها العفة. أبوحامد الغزالى (ت 505 ه / 1111 م): كما أن المستويات الثلاثة للنفس والتي يشير إليها فرويد، الهو، والأنا ، والأنا الأعلى ، نجد ملمحاً لها فيما يورده أبوحامد الغزالي في الجزء الثالث من كتابه "إحياء علوم الدين" والذي ترجم للألمانية عام 1913 ، عن النفس اللوامة (الأنا الأعلى) والأمارة بالسوء (الهو) والنفس المطمئنة (الأنا). الكندي: واهتم الكندي بالتربية والتأديب، وفي هذا الصدد يذكر الأهواني أن طريقة التأديب إذا وقع من الصبي مخالفات هي التغافل أولاً، ثم التوبيخ، ثم الضرب، ((لأنك إن عودته التوبيخ والمكاشفة حملته على الوقاحة)) ويُمدح بكل ما يظهر منه من خلق جميل. وما أكثر ما يمكن أن نستشهد به من آراء لمستشرقين ومشتغلين بتاريخ العلم فى الغرب عن فضل الحضارة العربية وإسهامات علمائها في شتى مناحي العلوم ومنها النفس قاله البارون كارا دوفو وهو أحد أعلام الاستشراق الفرنسي وممن اهتموا بابن سينا في مطالع قرن ماضٍ ، اذ يرى "ان الميراث الذي تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به، أما العرب فقد اتقنوه وعملوا على تحسينه وإنمائه، حتى سلموه للعصور الحديثة" ( 2 ) سارطون أحد أكبر من اهتموا بتاريخ العلم: “إن بعض المؤرخين يحاولون أن يتسخفوا بفضل الشرق على العمران ويصرحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئاً، إن هذا الرأي خاطئ ... ولولاهم لتأخر سير المدنية بضعة قرون“” (3) . الهوامش: (1) النظامى العروضي السمرقندي: جهار مقالة، ترجمة عبدالوهاب عزام ويحيى الخشاب، مطبعة لحبة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1949. (2) أبو الفتح التوانسي: من أعلام الطب العربي ، الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة 1966. (3) أبو الفتح التوانسي: المرجع السابق. المراجع : 1 - الشفاء، كتاب النفس: ابن سينا، تحقيق الأب جورج قنواني وسعيد زايدن ومراجعة ابراهيم بيومي مدكور، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975 . 2 - علم النفس في التراث العربي الإسلامي: تأليف د. الزبير بشير طه، جامعة الإمارات العربية المتحدة، 1997. 3 - نحو سيكولوجيا عربية: تأليف د. محمد أحمد النابلسي، دار الطليعة بيروت، 1995. 4 - الدراسات النفسانية عند العلماء المسلمين: تأليف د. محمد عثمان نجاتي، دار الشروق القاهرة 1993م.