هو أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا المولود عام 370ه في بخارى من بلاد فارس, لقب بالشيخ الرئيس لمكانته العلمية والعائلية, إذ كان أبوه والياً على هذه المنطقة وكان معتنقاً للإسماعيلية, كما كانت أمه كذلك, وكان منزل والده أنذاك يمثل صالوناً أدبياً وفكرياً لقادة الفكر والرأي في عصره, وخاصة رؤوس المذهب الإسماعيلي الذين تأثر بهم ابن سينا وبأفكارهم منذ نعومة أظفاره. دفعه أبوه إلى الكتاب صغيراً وهو يملك فهماً ثاقباً وعقلاً متطلعاً فلم يبلغ العشر السنين حتى أكمل حفظ القرآن الكريم ودراسة مبادئ اللغة واللسانيات, ومن ثم بدأ بعلوم المنطق والهندسة ومبادئ الطب على يد أستاذة أبي عبدالله الفاتلي وصديق والده حتى أعجب به شيخه كل العجب ونصح والده ألا يشتغل هذا الطفل بغير العلم. وفعلاً كان ذلك, فقد واصل دراسة علوم أُخر كالحساب والطبيعيات والالهيات وحتى الماورائيات, ولكنه كان إلى الطب أميل, ولم يبلغ العشرين من العمر إلا وقد ذاع صيته في الآفاق وأصبحت له شهرة في الطب لاتقل عن شهر أساتذته, وربما أنه قد فاقهم شهرة وصنعة, خاصة عندما استدعاه أحد الأمراء آنذاك, وكان قد عجز الأطباء عن مداواته فنجح ابن سينا في علاجه, ولذا فقد كافأه الأمير مكافأة مجزية وقربه منه وأطلعه على مكتبته النادرة التي كانت تحوي نفائس العلوم, ولم يسمح هذا الأمير لأحد قط بمطالعتها قبل ذلك. وفي هذه الفترة توفي والده- رحمه الله- وانتقل ابن سينا من بخارى إلى خوارزم, وطاف كثيراً في المدن الفارسية حتى استقر به المقام في جرجان فترة قصيرة انتقل على إثرها إلى الرّي واتصل بسلطانها مجد الدولة, وخرج إلى همدان بدعوة من أميرها وذلك لمعالجته من مرض «القولنج» ومكث بعد ذلك فترة هناك حتى توفي الأمير وخلفه ابنه الذي رفض ابن سينا أن يعمل عنده, الأمر الذي جعله يتهمه بمكاتبة عدوه في أصفهان ومن ثم زجّ به في السجن أربعة أشهر, وكانت هذه أول محنته. إلا أنه استطاع الفرار إلى أصفهان متنكراً في لباس الصوفية فاجتاز الفيافي والقفار حتى وصلها وأقام فيها سنوات ناظر علماءها وجالس أمراءها واكتسب هناك حظوة واسعة لدى الجميع. (وظل ابن سينا مستقراً في أصفهان يعمل جاهداً في الدراسة والتطبيب والتصنيف حتى اعتلت صحته من توالي الرحلات والغارات والسهر الطويل والعمل المستمر فوقع ضحية مرض الزحار, المرض الذي اشتهر في مداواته وكان أول من برع في علاجه, وعالج ابن سينا نفسه, ولكن القروح التي تسببت من شدة الداء أقعدته عن العمل.. ولما شعر باقتراب أجله استحم ونذر التوبة وأعتق عبيده وخوله وتصدق بأمواله وراح يقرأ القرآن ويجوده, داعياً إلى الله لخلاص نفسه, وفارق الحياة عام 428ه).(1) وقبل ذلك وعندما كان يعمل في الوزارة تطلع ابن سينا إلى نمطٍ معين من أنماط الحكم الذي رآه كمفكر, وهو إقالة رؤساء الجيوش عن جباية الخراج وجمع الأموال من الناس وذلك عندما رأى فساد هؤلاء القواد قد انتشر وحالة الناس من العامة قد ساءت من جور هؤلاء العسكر وتعسفهم وأخذ أموالهم بالباطل, فأصدر قراره بمنعهم من الجباية والاكتفاء بمناصبهم كقادة للجيوش فقط. لكن ذلك مالم يتم له قط, فثار عليه قادة الجيش الكبار وحقدوا عليه وهاجموه بكتيبة من الجند إلى قصره فاعتقلوه وضربوه بالسياط واقتادوه مكبلاً في أغلال حديدية إلى إحدى القلاع وسجنوه فيها وطالبوا الأمير بإعدامه, ومنعوا عليه في سجنه الأوراق والأقلام والكتب وزيارة الأصدقاء, إلا في فترة متأخرة عندما علم الأمير بحالته هذه فسمح له بدخول الكتب وزيارة الأصدقاء, وطالبوا منه أن يتنازل عن أفكاره هذه وقراراته فرفض بإباء وشمم غير مبالٍ بآلام القيود ووحشة السجن. وقد أملى على أحد زواره في السجن قصيدة مطولة عبر فيها عن حاله ومنها: عجباً لقوم يحسدون فضائلي مابين غيابي إلى عذّالي عتبوا علي فضلي وذموا حكمتي واستوحشوا من نقصهم بكمالي إني وكيدهم وماعتبوا به كالطود يحقر نطحة الأوعال وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه هانت عليه ملامة الجهال وبهذا التصوير فقد صور فلسفة زمنه كما هو فلسفة كل زمن, مبيناً معاناته من الجهال والمستبدين الذين لايهمهم إلا مصالحهم, ولايعيشون إلا على أنات الآخرين, وحقيقة فإن ظلام السجن وآلام القيود الحديدية لهي أثقل من الجبال وخاصة على ذوي الرأي وذوي الفكر. وابن سينا- رحمه الله- كان يمثل كبار أطباء عصره وفلاسفتهم, ولذا فقد لقبوه بالشيخ الرئيس لمكانته الطبية, ناهيك عن مكانته العلمية أيضاً في مجالات أُخر كاللغة والبيان والفقه والشريعة, ولذا فعندما أصيب شمس الدولة بقرحة المعدة واشتد مرضه وعجز كل الأطباء عن علاجه أشار عليه البعض باستدعاء ابن سيناء من سجنه ومعالجة الأمير, وفعلاً لم يجد في نهاية الأمر غيره فاستدعاه من السجن(وحضر الشيخ الرئيس طائعاً مختاراً وتناسى كل ماحدث وتفان في علاج شمس الدولة فكان لايفارق الحجرة التي يرقد فيها ونجح في تسكين الآلام المبرحة التي كان يشعر بها الحاكم المريض, ومنعه من شرب الخمر التي كان الأطباء قد أشاروا عليه بها لتخدير آلامه, ثم جعله يلتزم بألوان معينة من الطعام.. وكان ابن سينا أول من قرن الطب بالحالة النفسية التي يعانيها المريض, وله بحوث طويلة في ذلك لايتسع هذا الكتاب لسرد تفصيلاتها, وشفي شمس الدولة من مرضه..) (2) في هذه الفترة وبعد خروجه من السجن وشفاء شمس الدولة واعتذاره له عما جرى له قلّده الوزارة, وصالح بينه وبين العسكر, ولكن شفاء شمس الدولة لم يدم طويلاً, إذ يلتزم بتوصيات الطبيب فوافاه الأجل, وتولى العرش من بعده ابنه تاج الدولة, وكان غير متزن وغير ناضج, إذ سرعان مالعبت به ريح السياسة فاستمع لخصوم ابن سينا من أعدائه السابقين ومنعه من كافة حقوقه وسلبه مزاياه وقطع راتبه وأمر به السجن, وكانت مصيبة أخرى من مصائب ابن سينا, فاضطر للفرار بعيداً عن منزله واختبأ في منزل أحد أصدقائه وفي هذه الفترة وبينما كان مختبئاً ألّف كتابه المعروف«الشفاء» وبعض المصنفات الأخرى, وأثر عنه أنه كان ينسخ مايزيد عن خمسين صفحة في اليوم ويمليها على أحد تلاميذه, وبعد طول ترقب ومتابعة من قبل تاج الدولة وجواسيسه عرفوا مكانه فداهمته كتيبة من الجند وقيدوه وضربوه بالسياط وذهبوا به إلى القلعة, وهناك في القلعة ألّف كتابه«الهدايات» وأيضاً ألف كتاباً في الطب عن قرحة المعدة, وأيقن ابن سينا ألا خروج من هذا السجن لشدة العداوة التي كان يحس بها من قبل تاج الدولة فنظم قصيدة قال في واحدة من أبياتها: دخولي باليقين كما تراه وكل الشك في أمر الخروج وفعلاً لم يخرج من القلعة إلا بعد أن احتلها علاء الدولة الأصفهاني وأخرجه من السجن وكرمه وأخذه معه إلى أصفهان, وأمره بالاهتمام بعلم الفلك وإصلاح شؤون التقاويم الزمنية. (وانشغل أبو علي بالرصد الفلكي للكواكب والنجوم مع صديقه الفقيه«أبي عبيدة» بعد عمل شاق استغرق منه ثماني سنوات, أضاف خلالها جزءاً في المنطق لكتابه«النجاة» وهو الكتاب الذي جعله ملخصاً لكتابه”الشفاء)(3) ابن سينا وآثاره العلمية: يعتبر ابن سينا واحداً من أبرز العقليات في الحضارة الإسلامية, وذلك لما تميز به من عقلية موسوعية فاقت حد التصور, وجاوزت حدود المعقول من فهوم البشر, إذ طالما أحاط بعشرات من فنون العلم المتشعبة وأثر عنه من المؤلفات العلمية أكثر من مائتي كتاب سواء باللغة العربية أو بالفارسية, وحقيقة ما إن يؤلف في فن ما من الفنون إلا وتخاله تخصصه, وذلك لما يتناوله ويشبعه من جميع جوانبه, وقد ترجمت مؤلفاته هذه إلى عدة لغات أجنبية, وطبعت مرات عديدة حتى إن كتابه المتميز”القانون” في الطب قيل إنه طبع أكثر من ثلاثين مرة في جامعات أوروبا, ولايزال إلى الآن مصدراً رئيسياً لدراسة الطب في أرقى الجامعات العالمية, أما في الفلسفة, فقد تأثر كثيراً بفلاسفة اليونان مثل أرسطو وأفلاطون إذ(أخذ عن أرسطو فكرة القوة والفعل والممكن والضروري. وحولها إلى نظرية الإمكان والوجوب وجعلها في أساس تقسيم الكائنات...) (4) وفي الفيض الإلهي فقد قسم الفيوضات إلى عشرة, أولها المعلول الأول وآخرها العقل الفعال, وكذا تقسيمات العقل الخمسة عنده التي هي, العقل الهيولاني, والعقل بالملكة, والعقل بالفعل, والعقل المستفاد, والعقل القدسي, وكما أفاض الحديث في العقل فقد فصله أيضاً في النفس, وكان آية إبداعية في علم النفس وما يتصل بها وتروى عنه الكثير من هذه الأخبار في هذا الجانب, والتي تعتبر قواعد علمية لعلم النفس المعاصر, هذا إضافة إلى تفوقه في الموسيقى فقد كان(أول من تحدث عن تأليف الأنغام, وعن أزمنة الإيقاع, وعن تعليل حدوث الأنغام الغليظة المنخفضة والأنغام الرفيعة العالية, وكان أول من تحدث عن السلم المكون من أنصاف نغمات متتالية, وأول من تحدث عن الفواصل الموسيقية المتحدة) (5) ولم يكن في التصّوف بأقل شأناً من هذا, إذ رأى أصلية الخير واعتراض الشر في هذه الحياة, على خلاف آخرين كانوا قد ارتأوا عكس ذلك, وأن القلوب بقدر قربها من الله بقدر سعادتها, ولم يكن مجرد متصوف فقط, بل كان دارساً لسلوكه, محققاً لطقوسه, مصنفاً مراتب الصوفيين ودرجاتهم, معتمداً في ذلك على الحدس والتأمل, وهكذا اشتهر في كل العلوم والفنون(بيد أن شهرة ابن سينا- كطبيب وكان يدعى”بجالينوس العرب”- فاقت شهرته كفيلسوف, وقد حاول في كتابه الشهير(القانون في الطب) أن يوفق بين طب ابقراط وطب جالينوس, مضيفاً إليهما ماعرفه عن طب فارس والهند والسريان والعرب, ومادلته عليه خبراته الشخصية والتجارب التي قام بها بنفسه) (6). 1 - في سبيل موسوعة فلسفية,(الفارابي- الغزالي, ابن سينا) د. مصطفى غالب- 24 2 - سلسلة عباقرة خالدون«ابن سينا» محمد كامل حسن المحامي 44. 3 - ابن سينا أبو الطب, فياض, اسماعيل دياب 47. 4 - الفلسفة الإسلامية وأعلامها, د. يوسف فرحات 119. 5 - ابن سينا أبو الطب, سليمان فياض, اسماعيل دياب 53. 6 - المائة الأعظم في تاريخ الإسلام, حسين أحمد أمين- 156.