ثقافة التماهي مع الجلاد التي ورثناها كانت شديدة البيان في مصر واليمن وسوريا وليبيا وتونس، الأمر الذي جعل حالة الصدفة التاريخية “البوعزيزية” بمثابة الشرارة التي أحرقت السهول والوديان .. ليس لكونها صدفة مجردة، بل لكونها بذرة أومأت إلى كامل المقدمات التي صنعها النظام العربي المتخندق في زمن المغالبة الفجَّة للتاريخ ونواميسه. وما دمنا بصدد الحديث عن الثقافة العربية الموروثة بعجرها وبجرها، سنلاحظ أن تلك الثقافة قائمة على مركزية الغائب، بالتوازي مع عرضية الحاضر .. وهذا يتطلب بعض التفسير؛ فالغائب يتجلَّى في كل ألوان الآداب والفنون العربية، ففي اللغة المكتوبة تغيب الصوتيات وتظهر السواكن .. ذلك أن كل حرف مكتوب يحتمل تسع حركات صوتية غير مكتوبة حصراً، وهي: الفتحة والكسرة والضمة والسكون والشد والمد والفتحتان والكسرتان والضمتان، بل إن حالات المَد قد تتعدد كما هو الحال في الرسم القرآني. ولعل سائلاً يتساءل: وهل هذه مثلبة؟ وأقول له بكل الصدق إنها ليست مثلبة، بل ميزة، ولكنها ميزة تجعل مدون العربية وناطقها مأسوراً بفقه الكلام واللسان، فلا يمكنه النطق الصحيح والكتابة الصحيحة إن لم يستبطن الخفاء والأخفى. وفي التصوير التاريخي تسود في العربية ثقافة الزخرفة والنمنمة والرقش والنقش، وهي ثقافة بصرية تُعبِّر عن فكرة الاحتشاد المرئي، المحكوم في آن واحد بقدر كبير من المُضمر النابع من تجاويف الفراغات وامتداداتها الأفقية، وفي مثل هذه الثقافة البصرية كان لا بد للتجسيم والتشبيه أن ينزاح لصالح التجريد المُحاصر بإيقاع ثابت لا مفر منه.. وهنا نرى كيف تتمثَّل وحدة الثقافة العربية الإسلامية في مختلف تجلياتها الصورية والدلالية. تلك الوحدة الثقافية لها وعليها، فعلى المستوى الإبداعي تقدم قيمة متميزة، لأنها تراهن على فقه المعرفة والذائقة عند المبدع العليم، وعلى المستوى التفاعلي تحاصر الإنسان في مربعه الخاص، فيجافي الثقافات الصادرة عن البرهان والوضوح الواضح ، وهذا ما يجري في الزمن السياسي العربي، فالحاكم هو العالم العليم.. القادر المقتدر . إنه (هُبل العصر العربي) الذي تمرد عليه جاهليُّونا ومازلنا في الألفية الثالثة نستظل برذاذ سقمه وبلائه. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك