في ما مضى من المرحلة الانتقالية هجع كل شيء مثير للقلق إلا الإعلام.. انتهت الحرب, وسكت المتناحرون, وخمدت الثورة, وسكتت القاعدة, ورضخ المتمردون على القرارات, وآمن الجميع بالتغيير, بل وهدأ سعير “الفيسبوك” .. كل ذلك ولا يزال الإعلام مشتعلاً, يفجر في كل يوم ثورة, ويؤلف حكاية, ويزيف حقيقة, ويحاول دفع الأوضاع نحو مزيد من التأزيم والتعقيد. أما ما يتعلق بمرحلة التحضير للحوار الوطني المرتقب فحكاية الإعلام معها غير عادية, لاسيما الإعلام المقروء .. نبش في الماضي لإثارة الأحقاد, ومناكفات ومكايدات, وخلق للأزمات, وتنازع على الأموات, وتسفيه للأحلام, ومتاجرة بالأسقام. طبعًا ليس من شأن الإعلام أن يسكت .. لكننا نريده أن يهدأ, لأنه أصبح اليوم معولاً لهدم الوطن, وقيم التآلف والتصالح .. وحينما أنظر إلى الصحف وبعض الصحفيين فكأني أنظر إلى شعراء “بكر وتغلب” وهم يؤججون الحرب بالنعرات والعصبيات والحمية الجاهلية حتى هلكت أجيال وأجيال. لم يعد هناك ما تستحي منه بعض الصحف, أو تتورع عن نشره حبًا في هذا الوطن المسكين الذي يترك أبناءه يعبثون به كيفما يشاؤون, المسؤول يفسد, والمواطن يتملص, والمثقف يتعالى ويريد دولة مدنية ناجزة تقدم إليه مغلفة بالقصدير وكأنها دجاجة مشوية, والإعلامي يبحث عن الإثارة, وتحقيق مقروئية واسعة وإن كان الثمن أخلاقيات المهنة وقداسة الوطن. في مقال نشرته العام الماضي كنت قد أكدت ضرورة وجود الإعلام الذي ينبغي أن يشعر بأجواء التغيير, ويقدم الخطاب المتوازن الذي ينسجم مع أجواء الوفاق الوطني, بل ويكون حريصًا أكثر من غيره على دعم هذا الوفاق, لكن ظل الإعلام يتناطح بالنيابة عن الساسة, وأصب هو من يحرك السياسة وليست هي التي تحركه, بل ربما تصاب بالقرف حين تجد أن الإعلام والإعلام الآخر قد يصنعان ما لا تريده أطراف الصراع, وأشد القرف أن تكتشف أن هذه الأطراف جميعها غير قادرة على كبح جماح هذا السعار الإعلامي, الذي لا يعترف بشيء من مبادئ الاختلاف مع الآخر, لأن المهم هو الطمع في الإرضاء وكسب الود وجني الربح. اليوم نحن ندلف إلى الحوار الوطني القادم في 18 مارس 2013م, واليمنيون جميعهم يعولون على هذا في وضع تسويات نهائية للملفات العالقة مثل قضية النظام السياسي المستقبلي والقضية الجنوبية وقضية صعدة, ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف سيقام الحوار الوطني والواقع الإعلامي على هذا المنوال؟ .. كيف ستتهيأ فرص الوفاق بين المتحاورين؟ .. وهل سينجح الحوار بدون الحاجة إلى التهيئة النفسية المطلوبة, سواء تهيئة الجماهير أو تهيئة النخب أو تهيئة المتحاورين أنفسهم؟. هذه الأسئلة وغيرها ينبغي أن يكون لها وقع في مسامع القيادات الإعلامية المسؤولة عن الإدارة والإشراف على الإعلام الأهلي أولاً, سواء المقروء أو المسموع أو المشاهد. نحن بحاجة - يا معالي وزير الإعلام - إلى ملتقى للقيادات الإعلامية غير الحكومية أهم من ملتقى للقيادات الإعلامية الحكومية لوضعهم أمام صورة الواقع الذي يسير بهم .. الإعلام الحكومي أستطيع القول: إنه سيكون في مرحلة الحوار الوطني تحت السيطرة, لكن ما الحيلولة أمام الصحف والقنوات غير الحكومية التي نرى بعضها يقدم خطابًا لا يريد به سوى إبقاء النار مشتعلة. الإعلام في صورته الحالية سيكون وبالاً على مجريات الحوار الوطني وعلى مخرجاته؛ لأنه سيخلط الأوراق .. سيعمل على تسويق خيارات غير عقلانية أمام أطراف الصراع وسيحاول أن يضع الحجج والبراهين التي تقنع المتحاورين وتقنع الجماهير بأن لا فائدة من الحوار, وأن لا حل إلا الاستمرار في الفوضى والتناحر حتى إشعار آخر. حتى في حروب الجاهلية كان إذا قعد الفرسان وعمّ الصلح سكت الشعراء, لكن اليوم من سيسكت “سجاح” و” كاهنة ذي الخلصة” وغيرهما من عرافات الإعلام المأزوم؟ ختامًا أقول: نجاح الحوار الوطني مرهون بخطاب إعلامي راشد, وليس بخطاب مراهق إذا سألته عن ماهية الصحافة الوطنية, قال: هي فن إشعال الحرائق. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك