أكملت الثورة اليمنية خمسة عقود من عمرها الذي ابتدأ مطلع ستينيات القرن المنصرم، وهي فترة إذا ما قيست بالعصر والعالم المحيط بها فإنها تعتبر فترة كافية لإنجاز أهداف النضال الوطني والانتقال بها إلى طور آخر من الإنجاز القائم على حركة التقدم المتنامي اجتماعياً بالتراكم وتحولاته الكمية والكيفية، لكن الخمسة عقود الماضية كانت وقتاً مهدوراً. لم تقض الثورة خلال خمسين عاماً من قيامها على ثالوث الجهل والفقر والمرض، في وقت كان يفترض بها أن تؤسس أرضية ثابتة للتعليم ومحفزة للنمو وراعية للصحة, وعلينا بعد نصف قرن أن نقف وقفة موضوعية تجاه الإخفاق الظاهر للثورة في تحقيق أهم أهدافها، وأن نكف عن ملهاة الخداع السياسي ومآسيه الإعلامية المتكررة في المناسبات وفي غيرها بالتمجيد الذي يكذبه لسان الحال وواقعة المقال، للثورة وإنجازاتها في وطن موبوء بالفقر والجهل والمرض. نحن هنا لا ننكر إنجازات الثورة، ولا تنكر ما حققته من خطوات في سياق التقدم الاجتماعي ومرتكزات التطور خاصة على صعيد التعليم والنمو والرعاية الصحية، لكننا نقول: إن المتحقق فشل في مقداره، كما وفي قدره نوعاً، وأن الخمسة عقود هي وقت كان كافياً للقضاء على ثالوث التخلف من جهة وتأسيس مقومات التقدم ومحفرات حركته المتطورة من جهة أخرى، وبعبارة ثانية إن نصف قرن هو وقت كاف لإنجاز مرحلتين من التقدم، تقضي الأولى على واقع التخلف، بينما تؤسس الثانية لنهضة حضارية متنامية ومتكاملة. نقول هذا من باب التحذير من المخاطر المترتبة على استمرارنا في إهدار الوقت في السنوات القادمة، استناداً على تصديق أكاذيب الإعلام والخداع السياسي حول الإنجازات العظيمة والمنجزات العملاقة لثورة كانت مأسورة بالتخلف وركائزه الدائمة والمتزايدة بالجهل والفقر والمرض، فالجهل السائد في نصف الشعب مازال على حالة في ستينيات القرن الماضي: جهل أبجدية في عصر انتقل به العلم إلى الإليكترون وطريقه السريع إلى المعلوماتية الشاملة، والفقر يتحرك بالشعب إلى الجوع، ليكون المرض مركباً من جهل متزايد وشعب يتضور جوعاً. ولن ننكر المؤامرات الخارجية والحروب التي فرضت على الثورة اليمنية جهاراً وإسراراً، لكننا نقول: إن القيادات المسئولة عن إدارة حركة الثورة أهدرت نصف قرن منها بعيداً عن التركيز بالممكن والمتاح من القدرات والجهود في مجال القضاء على التخلف ابتداءً بركيزته الأولى: الجهل، حيث كان بمقدور اليمن القضاء تماماً على جهل الأبجدية خلال عقدين أو ربع قرن، وتحقيق ركائز النهضة التعليمية الشاملة بما هي توطين للعلم وقدرة على إنتاجه واستهلاكه في ربع القرن الثاني من عمر الثورة، لكننا لم ننجز من ذلك ما يعتد به واقعاً وكسباً في قليل أو كثير. نبدأ من إلزامية التعليم التي ضيعتها حالة الإصرار السياسي على تغييب الدولة التي تكفل وقف امتداد جهل الأبجدية إلى الأجيال القادمة، وتقضي على هذا الجهل ضمن خطة متكاملة، مع إلزامية التعليم التي تهدف إلى تعليم الكبار ومحو جهلهم بالأبجدية ومعارفها الأولية، لكن هذه الدولة كانت مغيبة، فاستمر تناسل الجهل في مناطق واسعة من اليمن، ثم امتد إلى مدن كبرى اشتهرت كمراكز علم وتعلم في عهد ما قبل الثورة، واليوم تفتقد إلزامية التعليم أهميتها بالتراجع عن مجانية التعليم ليفرض الفقر ازدهاره القادم باستمرار الجهل وبفعل غياب الدولة، ثم عجزها عن ضمان مجانبة التعليم ليكون الفقراء عن ذلك أعجز. لا أجد ما يبرر هذا الإخفاق الفاضح للدولة في القضاء على الجهل إلا مصالح القوى المستفيدة منه سياسياً واجتماعياً، ذلك أن الواقع المشهود يكشف عن تناقض مخيف بين القدرة والإهدار والمتجسد بحالة الجهل التي أضحكت وتضحك الأمم علينا، حيث نرى الشخصيات القيادية في مجتمعاتها المحلية قادرة على تجييش مواطنيها عسكرياً؛ إما لحراستها أو لخوض حروبها في وقت هي فيه قادرة، قولاً وفعلاً، على القضاء على الجهل وتعليم مواطنيها وتأهيلهم علمياً حتى لأداء ذات الخدمات العسكرية اللازمة لهذه الشخصيات.. ذلك أن تقنيات الأمن والأعمال المسلحة تستوجب تأهيلاً علمياً يمكن الأفراد من أداء مهام أكبر وأعقد من مجرد حشو البنادق وإطلاق الرصاص. كان بمقدور الدولة اليمنية تركيز الجهود والإمكانيات في خطة منظمة للقضاء على الجهل في فترة وجيزة، وهذه الدولة قادرة إذا هي أعطت التعليم الأولوية، وأحسنت استثمار مواردها الاقتصادية والبشرية في تنفيذ خطتها، أن تكمل نقص مواردها بالتعاون الأهلي والعمل التطوعي والخيري، ذلك أن التعليم والتعليم وحده، هو مفتاح التقدم وأساس كل تطور يتجاوز بنا التخلف وظلماته المهلكة للأمم بالفقر والمرض. يحتاج الوضع المتفاقم بمخاطر التخلف وأخطار تناميه وتناسله بالجهل والفقر والمرض إلى ثورة أخرى وإلى انتفاضة جماهيرية عازمة على الخروج من ظلمات الجهل إلى نور العلم، فهل من قادة لثورة العلم؟. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك