لو قُدِّر لأحدنا أن يذهب إلى أرشيف هيئة مكافحة الفساد السابقة لما وجد غير بعض القضايا وإلى جانبها – ربما - بلاغات وشكاوى بحق موظفين صغار أحدثوا مخالفات.. لن يجد قضايا النهب الكبير والمتوسط والصغير الذي يطال كل شيء في المرافق الحكومية, سواء تحت غطاء القانون أو بدون غطاء .. إن من يقرأ منجزات الهيئة منذ إنشائها سيدرك حينئذٍ – لو كان يعيش خارج الوطن – أن اليمنيين شعب ناهض, ومؤسساتنا لا تعرف الفساد لأنها محصنة بضمائر يقظة!!, والقانون يفرض هيبته, والقضاء يعاقب كل من يحتال على المال العام!!, وإذن فما الحاجة لإنشاء هيئة عليا لمكافحة الفساد قبل بضع سنين, والأكثر غرابة أن نجد اليوم رغبة ملحة لإعادة انتخاب هيئة جديدة لتواصل مسيرة المكافحة .. مسيرة ماذا؟! ومكافحة ماذا؟!. يقينًا, نحن في أزمة ضمير.. تخيلوا كيف لابن الوطن أن يرضى لنفسه أن يكون مسؤولاً في هيئة رقابية وتنتظر منه الملايين من الناس أن يصنع شيئًا يوقف طاحونة الفساد العظيم في هذا البلد, ولكنه لم يستطع فعل شيء, ومع ذلك يظل منشدًا للبقاء في مكانه والجلوس خلف المكتب, وكأن مكافحة الفساد ليست إلا تصريحات وطموحات ومقابلات للتباكي وإبداء الأعذار, ووضع الشعب أمام حقيقة الفساد المرّة .. أقول ذلك لأن مكافحة الفساد مهمة نوعية وليست مجرد وظيفة يكون الحضور إليها مجرد إسقاط للواجب. مع بداية نشأة الهيئة السابقة جرى الحديث, كما سمعنا, عن اشتراط أعضائها أن يتحصلوا على مستحقات كبيرة؛ لكي يستطيعوا المكافحة, فأخذوا ولكنهم للأسف لم يكافحوا, وظلت هيئتهم ديكوراً للاستعراض وتطمين الدول المانحة بأن اليمن بدأت تعرف الطريق, وأن الفساد يشهد اليوم حربًا شعواء لاجتثاثه, فالويل لكم أيها الفاسدون!! استمر الفساد في التجذر والتغلغل وابتكار عصابات الوظيفة الحكومية لحيل جديدة في الاسترزاق وتبادل المنافع, وظل الأمر حتى جاء عام 2011 ليصنع زلزلة أوقفت كل شيء, لكن كان من حظ عصابات الفساد أن الأمور انتهت بتسوية سياسية ومرحلة انتقالية يحكم فيها الجميع, وعدالة انتقالية تغض الطرف عن الجميع, فعاد الفساد إلى سابق عهده مستثمرًا أجواء التهدئة, وزاده تشجيعًا أن القضاء لم يصحُ من نومه بعد, وأن الشعب لا تزال قضيته سياسية: من يحكم؟ وليس البحث عمن يسرق, وعن الأقدام التي تصنع الأهداف للكابتن, ويأتمر بأمرها, ويصالحها على ما تريد. اليوم البلد مستمر في التدهور, والأحزاب تتصارع على من يحكم؟ ومن يدير؟, ولم يعد هناك شيء اسمه “شباب” ليسحبوا البساط من تحت الجميع, فالأوضاع تتأزم وفي الوقت نفسه يجري الحديث عن انتخاب هيئة جديدة لمكافحة الفساد وعن فضيحة التحايل في ترشيح من يستحقون أن يكونوا مكافحين للفساد. ليس لي علم بحقيقة ما يدور, لكن إذا صح الخبر فهذا يعني أن أزمة الضمير ازدادت حدةً, وأن بعض النخب الوطنية تزداد رداءة وعصيانًا لهذا الوطن ولمستقبل أبنائه, لأنها لا تعرف إلا (المحسوبية الحزبية), إن صح التعبير, والإرضاء في توزيع المناصب أيًا كان نوع الأشخاص, ولا يهمها أن تضع الكوادر المدربة والنزيهة التي يهمها البناء والنهوض والإخلاص الوطني وليس مجرد تسيير الأعمال والتصالح مع الفساد. من سيكافح الفساد إذن؟ ومن سيأخذ الوطن إلى طريق النهوض؟ إذا كان موظف الرقابة تعينه المحسوبية, وعضو هيئة مكافحة الفساد تعينه المحسوبية .. فمثل هؤلاء هل سيجرؤن على محاسبة من عيَّنهم؟! وهنا أعود لأتساءل: هل نحن بحاجة إلى هيئة لمكافحة الفساد, خصوصًا أن المسألة أصبحت صورية ليست أكثر من توزيع مناصب وصرف سيارات واعتمادات مالية مريحة؟! لسنا بحاجة إلى هيئة مشلولة لتكافح الفساد, ولكننا بحاجة إلى مسؤول بضمير حي يخشى الله ويعمل بالقانون ويحافظ على المال العام .. مسؤول بشخصية قوية يستطيع أن يدير المكان الذي هو فيه بعدل ووفق معايير موضوعية في الصرف والترقيات, وليس بالمحسوبية والوساطة والإرضاء. إذا وجد المسؤول النزيهة وذو الإرادة الصلبة فإنه هو من سيكافح الفساد ويؤسس لدولة عدالة ومساواة ونهوض وتطور. لكن السؤال الأهم: من سيُوجِد هذا المسؤول النزيه؟.. من سيوصل الجدير والمؤهل والعفيف إلى حيث ينبغي أن يكون؟ هذا ما أرادتْ أن تتحدث عنه شهرزاد فأدركها الصباح وسكتت عن الكلام المباح .. لكننا لن نيأس, وسنظل بانتظار من يقلب الطاولة على المفسدين ويطهر وطننا من رجسهم, وإذا كان لا بد من هيئة لمكافحة الفساد, فليسمح لي أعضاؤها القادمون أن أقول لهم: اخلصوا النوايا وحاولوا أن تصنعوا شيئًا تُذكرون به اليوم عند الشعب وغدًا عند ربكم, والتاريخ لا يرحم أحدًا . [email protected] رابط المقال على الفيس بوك