يكشف النداء الجريء الذي أصدره عدد من المثقفين الشيعة اللبنانيين مؤخراً «مبتدآت ومواقف - لبنانيون شيعة يخاطبون اللبنانيين» عن طاقة وطنية وأخلاقية عالية بحيث يموضع المثقف اللبناني على يقظة الحس ورقي التصورات في ظل ما تحيطه من تجاذبات وأزمات وطنية كبرى. ولقد تجلى الموقعون على النداء تماماً في دور الإرشاد الناضج والفرز الجيد، إضافة إلى الأفكار الوطنية الجسورة التي أشرقت في حالة تأهبها المدني الديمقراطي المسؤول، فضلاً عن أنهم ظهروا خارج نطاق التطابقات الجامحة لحالات الولاء للطائفة أو العشيرة، وبما يجعلهم مثقفين نبلاء وفاعلين وحالمين حقيقيين كما بوعي غير مصادر وبإرادة غير مستلبة. ولعل هذا ما يجعلني أعتقد بأن نداء هؤلاء المثقفين سيكون له الكثير من النفوذ القيمي والوطني على اللحظة المعاصرة في لبنان؛ كونه ينبثق من أرضية وطنية محددة وواضحة، بينما لا تشوبه أي نوازع منغلقة أو مأزومة بقدر ما يمثل تجليات حالة الفعل المغاير الحريص على التعايش الحقيقي، مابالكم والمثقف اللبناني –ومثله المثقف العربي عموماً - بمواجهة كل حصارات الطائفة أو العشيرة في هذه اللحظات المجنونة والعمياء. وكان عدد من المثقفين الشيعة اللبنانيين أصدروا نداءً حمل عنوان «مبتدآت ومواقف - لبنانيون شيعة يخاطبون اللبنانيين» خلصوا فيه إلى أن «المصدر الأساس للتحديات والمخاطر التي يواجهها لبنان انحلال الدولة، الناتج من استباحتها من طرف حزبيات شتى، سافرة ومستترة، وهو انحلال يعبر عنه تنازلها، الطوعي أحياناً ومن قلة حيلة أحياناً أخرى، عن امتيازاتها السيادية، سواء في الداخل أم في علاقاتها الخارجية».. ورأى الموقعون “ أنّ اشتراكَ تلك الحزبيات، كل بمقدار وسعها، في استباحةِ الدولة لا يُقَلّلُ في شيء من الدور المركزي في هذه الاستباحة للمُهَيْمنين على مقاليدِ الطائفة الشيعية، مما يأخذ اللبنانيين إلى مزالقَ خطيرةٍ ويضعهم في مواجهاتٍ مجانية مع بعضهم البعض، ومع أطراف شتى في محيطهم العربي”.. وجاء في النداء: «يتداعى الموقعون على هذا النداء بوصفهم «شيعة» مَنْ بالعقيدةِ والشعائر، مَنْ بالنّشأةِ والثقافة والتربية، مَنْ بالولادةِ فقط فإنما يُؤَلّفُ بينَهُم أيضاً، بل أوّلاً، وَلاء للبنانَ لا يتقدّم عليه أيُّ ولاءٍ آخر».. (وانطلاقاً من توافقهم على هذه التّشخيصاتِ، أكد الموقعون قناعَتَهم السياسية والأخلاقية بأنّ السبيلَ الأوحدَ لمواجهة التحديات، ولاحتواء المخاطر، التي تتهدد لبنانَ واللبنانيين هو السعيُ إلى بناء الدولةِ العادلة، القادرة، السيدة دولةِ الحقّ والقانون والمؤسسات، المراعيةِ في خياراتها أمن اللبنانيين ومصالحهم، والحريصةِ على السير قدماً في مناكب التطور والتحديث، وصولاً إلى ما ينشده اللبنانيون من إعلاء لقيم المدنية والمواطنية، في إطار جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وحقوق الإنسان). النداء دعا الشعب اللبناني إلى التسليم بأن للشعب السوري كل الحق في أن يحدد بنفسه ما يرتضيه لنفسه من خيارات حاضرة ومستقبلية، في منأى من أي تدخل خارجي أو أي اتهام لهذا الفريق أو ذاك بالخيانة أو العمالة أو سواها من التهم المجانية انطلاقاً من قناعة أن الأوطان لا تُبنى على القهر والاستبداد وبأنّ الديكتاتورياتِ لا تحمي التنوعَ ولا الأقلياتِ، وبأنّ مبادئَ الديمقراطية، واحترام الحريات العامة والخاصة وسيادة القانون وتداول السلطة هي ما يحفظ الكرامة الفردية والجماعية. وشددت الشخصيات الشيعية الموقعة على النداء على أن «القوة، مهما عظمت، ليست ضماناً لحاضر أو لمستقبل، وأن الكثرة مهما حسنت في عين بعضهم واطمأن إليها ليست حجة مفحمة». (وإلى هذا وذاك لا يرى الموقعون بداً من مُصارحة أنفسهم، ومن مصارحة كل من يعنيهم الأمر، بأنّ الأوانَ قد آن إن لم يكن قد تأخر لمراجعة شاملة لسياسات العقود الماضية، أرباحاً وخسائر، لبنانياً وشيعياً). كما اعتبروا أن «تشبث بعض اللبنانيين بإنكارِ حراجة هذه الساعة اللبنانية، وبإنكارِ أنها لحظةُ حقيقة تضعهم جميعاً على مِحَكّها، لا يُغني عنهم شيئاً. فإنْ يَسَعُهُم التّوَسُّلَ، عن خطأ أو عن صواب، بالنّأي بالنفس عن شؤون الغير، لا يَسَعُهُم النأيَ بأنفسِهم عن شؤونهم». وبحسب النداء فإن «التطوراتِ التي تشهدها سوريا، لا تُسرّع فقط من وتيرة ما يشهده لبنان من ارتباكٍ سياسي واجتماعي يُتَرجمُ عنه اضطرابُ حبل الأمن بما ينذر بما لا تحمد عقباه، وإنما تُسرّع أيضاً من وتيرةِ اقتراب اللبنانيين، مرةً جديدةً، من لحظة حقيقة لن يجدوا معها بداً من إعادة صياغة خياراتهم الوطنية ودفتر شروط عيشهم الواحد المشترك». وإذ تمنى الموقعون على النداء “لشعب سوريا أن يجدَ طريقَه في أسرعِ وقت، وبأقلّ أكلاف بشرية ومادية، إلى الأمن والأمان في ظل الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان” أوضحوا بأنّ «صفتَهم الشيعيةَ هذه، وهي واحدةٌ من بين صفاتٍ، ليست، في عُرْفِهِم، عنواناً لكيانيةٍ قائمةٍ بذاتِها ولذاتِها، أو بِرَسْمِ أنْ تقوم، بل إنّ تقديمهم إيّاها، الآنَ وهنا، على سواها من صِفاتٍ، إنما تُمليهِ حراجةُ هذه الساعةِ اللبنانية؛ حيث يبدو للموقعين أن المدخل إلى المشروع الوطني العام يفترض منهم تقديم هذه الصفة سواءٌ في مُخاطبتهم مواطنيهم اللبنانيين عامّة، أو مواطنيهم اللبنانيين من أبناء الطائفة الشيعية خاصة». ويأتي النداء حرصاً على لبنانَ، الكيان والدولة، وحرصاً على الطائفة الشيعية وعلى سائر الطوائف اللبنانية، كما ينطلق تحديداً من “نِداءاتِ هذهِ السّاعةِ اللبنانية الحَرِجَةِ، وتَحْتَ وطأةِ التّحدياتِ والمخاطرِ الجسامِ التي تُحاصِرُ لبنانَ، وَطَناً ودولةً، وتُحاصِرُ اللبنانيين عموماً، في أمنِهم واستقرارِهم وأرزاقِهم وعائلاتِهم”. (راجينَ أن تُسَدّد نَظْرَتَهم المشتركةَ في أحوالِ لبنانَ، وأن تُصَوّبَ سعيَهم إلى الإسهام في الاستجابةِ لما يُمْتَحَنُ به الوطنُ اللبنانيُّ، الآنَ وهنا، من امتحانٍ عسير يَتَهَدّدُهُ كياناً ودولةً ومعنًى ورسالة). [email protected] رابط المقال على الفيس بوك