لا أدري هل كانت رحلة أم مغامرة ؟ ، وهل كانت متعة أم معاناة؟ ولعل القارئ الحصيف يكتشف الجواب، فقد طفنا في مسيرنا عدة محافظات يمنية شمالية وجنوبية ، ساحلية وجبلية ، قبلية ومدنية حارة وباردة ومعتدلة ، بحثنا في كل اللحظات عن المتعة والفائدة مررنا فيها على محافظات (الضالع عدنالحديدة ريمة صنعاءأبينرداعذمارلحج) ، التقينا وحاورنا شخصيات (اجتماعية سياسية إعلامية تربوية دينية فكرية) من ألوان الطيف المتباينة. كانت الطبيعة تتجلى لنا في طبائع مختلفة كاختلاف طبائع البشر ، فأحيانا تبدو سهلة لينة تحاكي طباع الساكنين في المناطق الساحلية فنسبق عندها الرياح الراكضة، وأحيانا تصير صعبة قاسية تعكس قسوة وجلد القاطنين في المرتفعات الشاهقة فتسبقنا نسمات الهواء الزاحفة، كما تباين حكم هذه الطبيعة فينا فهي تهبنا الحرية أحيانا وتستبد علينا أحايين أخرى ، فعند اعتدال الأجواء تترك لنا الخيار في ارتداء ما نرتضيه ، غير أنها سرعان ما تنزع منا هذه الحرية عند مشارف المناطق الباردة أو الحارة فتفرض علينا ملابس ثقيلة نستخفها أو خفيفة نستثقلها. ما أكثر ما سحرت اليمن قلوبنا كما تسحر الحسناء قلوب العاشقين، وزاد من حسنها تحليها بألوان من الزينة ما بين رمالها الذهبية وخضرة وديانها وسمرة جبالها وزرقة بحارها، وزادت إلى جمال الأوصاف جمال الأخلاق التي استقتها من مشارب مختلفة ، ففيها شهامة أبناء المناطق الجبلية وحكمة أبناء المناطق الوسطى وبساطة أبناء المناطق الجنوبية، وبقدر ما سحرتنا في أوصاف الجمال سحرتنا في أصناف الطعام فقد أذاقتنا من طبخ يديها أشهى الأصناف (الزربيان وفتة البر باللحم والسلتة الصنعاني والهريش .. إلخ) ،وكان كل صنف يأتينا من الحجج ما يفوق به صاحبه فيجعلنا مقبلين عليه شاهدين بتقدمه. غير أن هذه المتعة كانت تحمل في طياتها الكثير من المعاناة، فأحيانا تُذهل عندما ترى مارد التسول قد جند في صفوفه الكثير من الأطفال الأبرياء والفتيات اليافعات وجعلهم يطوفون الشوارع المزدحمة ويتعرضون لكل أنواع الاستغلال مقابل أثمان بائسة لا تساوي قليلا من كرامتهم المهدورة وحقوقهم الضائعة، وأحيانا تُرعب حين تجد في طريقك الكثير من النقاط التي يقوم عليها مسلحون أشداء يغلقون مداخل المدن الرئيسية ينشرون الخوف ويجبرون المسافرين المنهكين وقد شارفوا على الوصول أن يسيروا لساعات طويلة بحثا عن مدخل آخر ، وتجد عند كثير من هذه النقاط عشرات الشاحنات التجارية وقواطر الوقود موقوفة لخلاف مع أجهزة حكومة أو نزاع بين طرفين أو نشراً للفوضى، ومن العجيب أن تجد ودون وجل كثيراً من نقاط المسلحين لا تبعد كثيرا عن مرأى نقاط الجيش والأمن ،، وينطبق عليها المثل القائل (يا جاري أنت في حالك وأنا في حالي). وتشتد المعاناة عندما تجد نفسك مضطرا للمرور في طريق طويل تسمع فيه صوت الموت يدوي مع كل رصاصة يطلقها أطراف متنازعون على بعضهم البعض تحصد أرواح المارة الأبرياء ويدفعون حياتهم ثمنا لصراع لم يشاركوا فيه ولم يصنعوا أسبابه ، ويسيطر عليك التذمر والحذر من كثرة المطبات المرصوصة والمتقاربة على طول الطريق وفي المنحنيات الخطيرة برعاية رسمية أو شعبية، فهناك مطبات للتفتيش ومطبات للتقطعات ومطبات لتوجيه المياه للمناطق الزراعية ومطبات للبيع ومطبات للبناء ومطبات للاعبي الكرة ومطبات لمرور الطلبة ومطبات عند كل منطقة سكنية ومطبات ترمز لحوادث سابقة بل حتى المتسولين صارت لهم مطبات ، وليس يساوي عدد هذه المطبات إلا عدد الحفر المنتشرة في بعض الخطوط الطويلة كانتشار الذباب في مقالب القمامة إن فررت من حفرة شدتك أخرى ولغياب لوحات التنبيه قبل كل مطب لا يبقى من سبب لسلامتك وسلامة المركبة والركاب إلا حفظ الله، وعلى قدر ما تأخذ هذه المطبات من الأرواح تأخذ من الأوقات فتجبرك على قطع المسافات القصيرة في أزمنة طويلة. وإن كان ما سبق ذكره معاناة لا تطاق فأشد منه أن تسير في قطعة من وطنك فتشعر أنك زائرا غير مرحب به ، فسكانها يرونك دخيلاً لا أصيلاً ، وسارقاً لا سائحاً ، وخصماً لا صديقاً ، وتتمنى رغبة في السلامة وحسن المعاملة لو كنت لاجئاً صوماليا أو متعاقدا ًمصريا أو سائحا نصرانيا المهم ألا تكون مواطنا من الشطر الآخر ، فهم يحملونك أوزار ما تعرضوا له من مظالم متنفذين أصابك من مرارتها فوق ما أصابهم ، ويحاسبونك على جرائم أحرقك سعيرها قبل أن يلفحهم رمادها ، ولا تملك إلا أن تتمتم بالقول (ما أغرب أن يلام الضحية بجرم الجاني ويؤخذ البريء بذنب المسيء). وما ذكرته من معاناة نزر يسير مما لقيناه ورأيناه ،، غير أننا واسينا أنفسنا بأن الراحة تولد من رحم المعاناة ،، وبأن اليمن ستعود بلدة طيبة ما طابت قلوب أهلها ، وسيجنون خيرها ما حركوا عقولهم وأعملوا سواعدهم ،، وسيبقى نبض قلبي يمنيا. رابط المقال على الفيس بوك